لا يُختصر حسن الأداء العام بقيام حكومة. ولا يمكن حصر ردة الفعل الاعتراضية بأداء الحكومة المستقيلة، رغم سلبياتها التي لا تحصى. فما حصل من اهتراء في بنية الدولة، وفي المؤسسات العامة الرسمية وفي قطاع الهاتف والكهرباء والمياه والطرق، لا تعوّضه حكومة اختصاصيين وحدها، طالما أن القوى السياسية التي تتلطّى خلف الوزراء التكنوقراط، تمسك بمفاصل الإدارة وتوظف فيها على مستوى كل الفئات والدرجات، كما تستثمر في الأمن والقضاء والقطاع المالي والمصرفي.
المفاوضات التي تجريها القوى السياسية لتسمية ممثلين عنها في الحكومة المقبلة، تمثل نموذجاً فاقعاً عن تعاملها منذ ما بعد الطائف، مع السلطة التنفيذية والتركيبة الإدارية، علماً بأنها ظلت لسنوات تحافظ على ماء الوجه في السلطة التنفيذية ببعض «الرتوش» الذي غطى دخول منطق الميليشيات إليها وإلى الإدارة بكامل عدّتها وعديدها. يتحدث السياسيون الذين رافقوا الحرب وما بعد الطائف، عن أن الاهتراء لم يلحق مؤسسات الإدارة، فعلياً كهيكلية وكأشخاص، في ظل استمرار التركيبة التي كانت قائمة قبل الحرب، وحافظت على أدائها الموروث منذ أيام السلم، مع العلم بأن البنية الإدارية الحقيقية والجدية التي نشأت في عهد الشهابية ظلت قائمة الى عهود لاحقة، واستمرت مفاعيلها مع تقدم سنوات الحرب. بعد الطائف، مورست سياسة إدخال الميليشيات الى كل قطاعات الخدمات والإدارة والتعليم والجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية والاقتصاد، في مقابل طبقة سياسية من الصف الأول كانت ممثلة في الحكومات المتعاقبة لسنوات. ورغم كثير من الانتقادات لأداء هذه التركيبة في مرحلة سياسية حساسة، إلا أنه لا يمكن القفز فوق اعتبار أن هذه القوى الموزعة على طوائف ومذاهب كانت صاحبة القرار الأول لدى طوائفها وأحزابها وممثليها. لكنها في موازاة ذلك بدأت بالاستثمار في الواقع الإداري والجامعي والمؤسسات الرسمية والصناديق ووسائل الإعلام الرسمية واللجان الموقتة التي أصبحت دائمة، كحال اللجنة الموقتة لإدارة مرفأ بيروت، فنقلت إليها قاعدتها الحزبية والميليشيوية كخزان أساسي لها. وحين ترفع هذه القوى الغطاء عن أحد هؤلاء، تضعه في التصرف كحال كثر. وحين يقرر مجلس شورى الدولة إصدار قرارات منصفة لأحد «المظلومين»، تبقى بلا تنفيذ. وهذا الأسلوب أدى الى تجذّر هذه الأحزاب ــــ الميليشيات سابقاً ــــ في بنية الإدارة العامة، من رأس الهرم الى قاعدته. وأي تطهير للإدارة من تقاسم الحصص والنفوذ الحزبي والسياسي يحتاج الى عشرات من حكومات الاختصاصيين الفعلية.
تراجع التيار من الواجهة وزارياً لا بد أن يترافق مع تمتين لقاعدة إدارية صلبة
كرس الرئيس الراحل رفيق الحريري، كما الرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط، هذا الأداء في الإتيان بطبقة موظفين موالين في كل القطاعات. وقد ورثها الرئيس سعد الحريري، بعد عام 2005 وعززها أيضاً بتعيينات إدارية صبّت في المنحى نفسه. يمثل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمدير العام لشركة طيران الشرق الأوسط محمد الحوت نموذجين صارخين عن هذا الاستثمار الطويل الأمد في التوظيف الذي تعتمده القوى السياسية، التي تخرج من الحكم وتعود إليه، لكنها في الوقت نفسه تبقى لها اليد الطولى في الإدارة. هكذا كانت حال الحريري الابن حين خرج مرتين من السرايا الحكومية، لكنه بقي صاحب نفوذ في المؤسسات الرسمية، وفي المحافظات في مجالس وهيئات اقتصادية وكثير من المواقع الوزارية والإدارية والأمنية والقضائية، بفعل تقاسم ما أنجز من تعيينات قبل انفراط عقد التفاهم بينه وبين العهد.
هو النموذج نفسه الذي اقتدى به التيار الوطني الحر قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وبعده، وعمل به قبل استقالة الحريري حين كانا ينجزان معاً مروحة واسعة من التعيينات الإدارية، ويعمل به الآن إبان التأليف الحكومي. فمنذ أن بدأ خطاب التيار يتركز حول نقطة واحدة هي إعادة التوازن للتمثيل المسيحي في الإدارة، حصّن نفسه بطبقة من المديرين العامين ومن الجهاز الإداري في مؤسسات ومواقع رسمية إدارية وأمنية، وبموظفين من فئات ثانية وثالثة، تيمّناً بما قامت به سابقاً القوى السياسية الأخرى. واستفاد بعد انتخاب عون، من تحصين هذه الحصص، وتعزيز دورها. يشكل نموذج ما قام به رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور فؤاد أيوب بالخلفية السياسية الموالية لبري تجاه الدكتور عصام خليفة، وتلويح المدير العام لمؤسسة مياه بيروت جان جبران بضرورة دفع اشتراكات المياه حتى يستمر تأمين المياه للمشتركين، في ظل أزمة اقتصادية خانقة (معطوفة على تقنين كهربائي حاد وأزمات غاز ومازوت)، نموذجين متشابهين من الحضور الحزبي في الإدارة والسلطة، والمؤثر تأثيراً مباشراً، بغضّ النظر عن الحصص الحكومية. والتيار في صورة متقدمة، كونه الأحدث حضوراً في الإدارة، كان يراهن على أن تتوسع هذه القاعدة مع التعيينات الإدارية، لتشكل ركيزة مهمة في التعامل مع المستقبل السياسي للتيار. وهو رغم خسارته السياسية بفعل ما تعرّض له والعهد بعد 17 تشرين الأول 2019، نقل رهانه في صورة أوسع في مناقشة التمثيل الوزاري، بعدما خرج ممثلو الصف الأول من الحكومة. فبدا طرح المرشحين للاستيزار من خلال مروحة أسماء تصب في خانة الولاء كمعيار وحيد اعتمد في التعيينات الإدارية وفي اختيار أكثرية نواب التيار. فابتلاع التراجع من الواجهة وزارياً، لا بد أن يترافق مع تمتين لقاعدة إدارية صلبة، إذ يفترض بالحكومة الجديدة أن تجري تعيينات إدارية، واختيار فريق وزاري أكثر صلابة يحافظ من خلاله على حضوره السياسي. وهذا يقي التيار شر الانقلابات عليه مع أي تطورات سياسية داخلية، قد لا تصب في مصلحة بقائه في الصف الأول.