تشير الأرقام والمؤشّرات الى أنّ عدد الذين يعيشون حالة من الفقر المدقع قد بلغ نحو 100 مليون شخص حول العالم في السنة والنصف المنصرمة، بالإضافة إلى فقدان 255 مليون وظيفة، ولا شك أنّ لجائحة “كورونا” الدور الرئيسي في ذلك. فهذا الوباء قضى على المرتكزات الأساسيّة للنشاط الاقتصادي وأعاد تعريف مفاهيم جوهرية في أسس التبادل والعمل والاجتماع والانتقال، وأسقط الكثير من الركائز التي لطالما بُنيت عليها الاقتصادات والمجتمعات.
بمعزل عن الجدل الطبي المتّصل بفعاليّة اللقاح بجنسياته المختلفة، وهو أمر يستطيع فقط أهل الاختصاص من الأطباء أن يحسموه؛ وبمعزل عن الأرباح التجارية التي ستجنيها الشركات المصنّعة للأدوية واللقاحات بالأساليب المركنتيلية الرخيصة؛ ثمّة واقع لم يعد من الممكن تجاوزه أو التصرّف على أنّه غير موجود أو مقاربته من زاوية نظريات المؤامرة أو النظريات الانكارية التي تعكس جهلاً وتخلّفاً لا تزال بعض مكوّنات المجتمع تعكسها في سلوكياتها وتصرّفاتها.
لبنانياً، الواقع تراجيدي على مختلف المستويات، ولو كان “كورونا” يتصدّر التحدّيات والمصاعب. حالة التقهقر والاضطراب السياسي والاقتصادي تكاد تلامس كلّ نواحي الاجتماع اللبناني، من إنهيار الأخلاق السياسية ومنظومة القيم التي تعكس نفسها في تدنّي مستوى الخطاب الاعلامي ووضاعته قياساً إلى حجم المشاكل والتراكمات، إلى سياسة العناد والمناكفة التي تفرض نفسها ضيفاً ثقيلاً في ملفّ التأليف الحكومي المنتظر على أحرّ من الجمر، إلى سواها من القضايا والملفّات الساخنة التي لا تحتمل التأجيل وتمهّد للانفجار الاجتماعي الكبير الذي قد يأخذ أشكالاً مختلفة، ليس أقلّها الفوضى العارمة التي سيصعب على الدولة ضبطها أو السيطرة عليها.
فالدولة في لبنان هي الطرف الأضعف للأسف. تُمارس عليها كلّ العنتريات السياسيّة، فترى البعض يتصرّف وكأنها في جيبه الصغير، ويتحرّك بـ “مونة زائدة” على البلاد كأنه الحاكم بأمره، أما البعض الآخر فيكاد لا يكترث لوجودها أساساً. يفتح الحدود البريّة للتهريب على مصراعيه ويجعل التنقّل بين “دول المحور” وكأنه نزهة عسكرية لا توقفها دوائر رسمية أو هيئات حكومية. الأراضي برمّتها مستباحة. يتذكّرون الدولة فقط عندما يعجزون عن تنفيذ أمر ما، أو عندما يتبيّن لهم أنّ دفع الدولة إلى الواجهة الأمامية فيه أكثر إفادة لهم.
هل تذكرون القرارات المتكرّرة التي إتخذها المجلس الأعلى للدفاع في ما يخص ضبط التهريب وملاحقة المهرّبين؟ وهل تذكرون أيضاً أن هذا المجلس ينعقد برئاسة رئيس الجمهوريّة (القوي) ويضمّ رئيس الحكومة وكل قادة الأجهزة العسكرية والأمنية؟ وهل تذكرون أنّ قراراته “السرّية” غالباً ما لا تُنفّذ على الأرض؟ ماذا بقي من هيبة الدولة؟ ألا تستطيع بالحدّ الأدنى إقفال بعض المعابر غير الشرعية والممرّات الترابية بين لبنان وسوريا أقلّه لتبعث برسالة إلى مواطنيها أنها قادرة أن تحقّق إنجازاً ما في مكان ما؟
لقد كان بالامكان ترشيد الدعم وإعادة توجيهه نحو مجالات أكثر فعالية من حيث وصوله إلى الفئات الأكثر عوزاً وفقراً، وبما يحدّ من حركة التهريب الناشطة على الحدود على مرأى من الأجهزة الأمنية الرسمية، ولكن من الواضح أنّه ممنوع على الدولة أن توقف عمليّات التهريب، بل المطلوب أن يحمل لبنان المثقل بالمشاكل وزر الاقتصادين اللبناني والسوري الذي يتعرّض لعقوبات كبيرة.
أمّا حكومة تصريف الأعمال، حكومة اللون الواحد والصوت الواحد والتوجّه الواحد، فيكفي أن تهتمّ بملفّ “كورونا” بانتظار أن يحين أجلها وتولد خليفتها من رحم المكابرة والعناد والمناكفة. في المحصلة، ليس مهمّاً ما يعيشه اللبنانيون من قهر وذلّ وفقر، بل المهمّ أنّ المرجعيات الرسمية، بدءاً من رأس الهرم، لا تتراجع قيد أنملة عن مواقفها حتى ولو قادت لبنان إلى “جهنّم”! متى يصل اللقاح السياسي يا ترى؟