بعد ستة أشهر من تصريف الأعمال، لا يزال رئيسا الجمهورية والحكومة يختزلان الحكومة بأكملها. وعلى الطريق، يصبح توقيع 150 قراراً ومرسوماً استثنائياً أمراً عادياً، فيما انعقاد مجلس الوزراء يبقى من المحرّمات، حتى لو كانت الغاية تصريف الأعمال بالمعنى الضيق!
يُعيد الرئيس حسان دياب ويُكرر أنه لن يدعو مجلس الوزراء إلى الاجتماع في فترة تصريف الأعمال. يتعامل مع قراره بمبدئية لا تتناسب مع الظروف الراهنة. قناعته تلك لا تُميّز بين اجتماع لإقرار الموازنة أو اجتماع لإقرار قبول هبة. كله سيّان بالنسبة إليه. يُجاهر بذلك ويعتبره موقفاً يحمي الدستور. حتى إن من زاره أخيراً من هيئة التنسيق النقابية معترضاً على مواد في مشروع الموازنة، طمأنه إلى أن «الحكومة ليست في وارد الاجتماع لأنها في حالة تصريف الأعمال».
في المقابل، لا ضير بالنسبة إلى رئيس الحكومة في أن يصل عدد القرارات الاستثنائية إلى 150 قراراً ومرسوماً استثنائياً وُقّعت خلال ستة أشهر. ليس النقاش هنا مرتبطاً بما إذا كانت هذه القرارات تقع فعلاً في خانة الإطار الضيق لتصريف الأعمال أو لا. في الأساس، اصطلح بين القانونيين أنه كلما طالت مدة تصريف الأعمال وجب توسيع مفهومه، بما يسمح بالتعامل مع المتطلبات المتزايدة لإدارة الدولة ومرافقها. وهذا قول يُصبح أكثر إلحاحاً في الحالة اللبنانية، حيث الانهيار الشامل يطاول كل القطاعات.
يقول الوزير السابق بهيج طبارة إن الممارسة في لبنان وفي الخارج أثبتت أن «تصريف الأعمال» هي عبارة مطّاطة تضيق وتتسع حسب الظروف التي يمر بها البلد. لذلك يمكن القول إنه كلما طالت مدة الأزمة الوزارية نتيجة تعثّر تشكيل الحكومة الجديدة، ازدادت احتمالات حدوث أوضاع أمنية أو استحقاق مواعيد دستورية أو مالية أو حصول كوارث طبيعية تستدعي معالجة سريعة، فتضطر حكومة مستقيلة إلى الانعقاد وممارسة صلاحيات كاملة لحفظ أمن البلد وسلامة المواطنين». كلام طبّارة تؤكده سوابق عديدة. لطالما اجتمعت حكومة في فترة تصريف الأعمال لاتخاذ قرارات ضرورية. في عام ١٩٦٩ اجتمعت حكومة الرئيس رشيد كرامي المستقيلة لإقرار الموازنة. وفي عام ١٩٧٣، اجتمعت حكومة الرئيس أمين الحافظ قبل نيلها الثقة لإقرار حالة الطوارئ، وفي عام ١٩٧٩ عقدت حكومة الرئيس سليم الحص اجتماعاً لإقرار المراسيم التنفيذية لعدد من القوانين، وفي عام ٢٠١٣، عقدت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة اجتماعاً أقرّت فيه تعيين هيئة الإشراف على الانتخابات… لكن هذه السوابق لا تجد من يعتدّ بها، لأن رئيس الحكومة قرّر أنه من دون طلب من مجلس النواب، لن يدعو مجلس الوزراء إلى الاجتماع.
في الظروف العادية، حيث الحكومة مكتملة الصلاحية، عندما تُطرح مسألة على التصويت لا يكون لرئيس الجمهورية حق التصويت ويكون لرئيس الحكومة صوت واحد من أصل 20 وزيراً، أو ثلاثين… لكن في الحالة الراهنة يكفي ليمرّ أي قرار أو مرسوم أن يوقّع عليه الرئيس ميشال عون والرئيس دياب والوزير المختص أحياناً. أما البقية من الوزراء، فلا قيمة لأصواتهم، وهم بالكاد يعرفون بما يقرّ، إلا إن كان يخصّ وزاراتهم، وبعضهم من انتهى دوره أصلاً مع استقالة الحكومة. هؤلاء بحجة تصريف الأعمال، تخلّوا عن دورهم الطبيعي بالمشاركة في اتخاذ القرارات الحكومية. ولذلك، صار عادياً أن يختصر رئيسا الجمهورية والحكومة مجلس الوزراء، حتى وصل الأمر إلى إقرارهما مراسيم تحتاج إلى ثلثَي الحكومة لإقرارها، ولا سيما منها التمديد لموظف فئة أولى (تمديد تكليف باسم القيسي رئاسة لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت) أو إقرار اتفاقيات دولية (قرض البنك الدولي) ومن ثم توقيع مرسوم إحالتها إلى مجلس النواب. في الحالة الأخيرة، تحوّلت اللجان النيابية للقيام بدور مجلس الوزراء في مناقشة بنود الاتفاقية، كونها هي عملياً السلطة الدستورية الأولى التي تدرسها، بعد المفاوضات التي جرت بشأنها ومن ثم توقيعها. الظروف الاستثنائية سمحت للرئيس نبيه بري بتسلّم مشروع قانون من حكومة مستقيلة، لكن الظروف نفسها لم تستدع اجتماع الحكومة!
دستورياً، تكتفي المادة 64 من الدستور بالإشارة إلى أن «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال». الإشارة تلك لا تلزم المجلس بالانعقاد أو بعدمه، لكن طالما أن لا إشارة إلى ذلك، فإن الأولى بحسب مصدر قانوني هو الاجتماع، لأن القرار سيكون أكثر صدقية وثقة وقوة في وجود ٢٠ وزيراً. المصدر الذي يرفض الكشف عن اسمه، «حرصاً على عدم استثمار موقفه في السجالات السياسية»، يؤكد وجوب أن تعمد الحكومة مجتمعة، إلى تصريف الأعمال. وأكثر من ذلك، يرى أنه مهما كان موقف القوى من اجتماع مجلس الوزراء باعتباره مخالفاً لمبدأ تصريف الأعمال، فهو حكماً أقل وطأة من اعتماد القرارات الاستثنائية التي تُخالف أبسط القواعد الدستورية. فالقرار الاستثنائي يعني أن يُعاد عرض القرار على الحكومة الجديدة على سبيل التسوية، بينما اجتماع الحكومة واتخاذها لأي قرار يزيل الحاجة إلى هذا المسار غير الدستوري، بالنسبة إلى معظم الخبراء الدستوريين.
هيئة التشريع والاستشارات نفسها سبق أن أكدت، في أكثر من استشارة، جواز، لا بل ضرورة اجتماع الحكومة لاتخاذ القرارات. في الاستشارة الصادرة في ٢ أيلول الماضي، والمتعلقة بالانتخابات الفرعية في ضوء إعلان حالة الطوارئ في بيروت حينها، أشارت إلى أنه «حيث إن صدور المرسوم بتمديد حالة الطوارئ بناءً على موافقة استثنائية لا يغني عن اجتماع مجلس الوزراء بهيئة تصريف الأعمال وفقاً للمادة ٦٤ من الدستور، إذ إن الموافقة الاستثنائية يُلجأ إليها إن كان ثمة استحالة لاجتماع مجلس الوزراء، سواء لممارسة صلاحياته الكاملة أو لممارسة صلاحياته بالمعنى الضيق». رئيس الحكومة لم يجد في هذه الاستشارة التغطية التي يحتاج إليها. المطلوب تغطية سياسية لا قانونية، إلا إذا كان مقتنعاً بأن ثمة «استحالة» لاجتماع مجلس الوزراء.