لم يكن لبنان بمنأى عن التدخلات الخارجيّة والتأثيرات الاقليميّة في يوم من الأيام، لا بل لطالما استُخدم كساحة لتصفية الصراعات وشن الحروب بالوكالة بما يعزّز المواقع التفاوضيّة لهذا الطرف أو ذاك. تغيّر اللاعبون بتغيير المراحل والحقبات التاريخيّة وبقي الثابت ألا وهو استمرار التدخل بشكل أو بآخر.
في أيّام الوصاية السوريّة، مُنع لبنان من رسم سياسة خارجيّة مستقلة، ورُبط مصيره بمصير سوريا تحت ذاك العنوان الشهير: وحدة المسار والمصير. ولا تزال صعوبة التفاهم على سياسة خارجيّة موحدة من المصاعب الكبرى التي تعتري قيام مشروع الدولة المنتظر في لبنان منذ سنوات طويلة، لا بل منذ عقود. ولم يكن الأمر أفضل حالاً في السنوات التي تلت الاستقلال سنة 1943 وأدت إلى ثورة 1958 وخلافات سياسيّة جوهريّة حول موقع لبنان ودوره في المعادلات الاقليميّة.
واليوم، لا يزال لبنان يدفع أثماناً باهظة نتيجة إنعدام القدرة على التفاهم على الحد الأدنى من الثوابت الوطنيّة التي يفترض أن تكون محسومة في أي دولة، بدل أن تستولد الخلافات تلو الخلافات وبعضها يأخذ الطابع العنفي والنزاع المسلح ويخلّف المآسي الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية على أكثر من صعيد.
الحرب التي يواجهها اللبنانيون اليوم حرب من نوع آخر. لم يسبق لهم أن واجهوا حرباً بضراوتها وقسوتها. نعم، هي أقسى من الحرب الأهليّة. فغالباً ما ينمو على ضفاف الحروب ما يُسمّى إقتصاد الحروب الذي يكبر ويتسع من خلال الأموال التي تتدفق إلى الجهات المتقاتلة. هذه المقارنة لا ترمي إلى محاولة الايحاء بأي شكل من الأشكال بأن المطلوب عودة الحرب، ولكنها مجرّد تمرين نظري عما تمر به البلاد من ظروف صعبة راهناً قياساً إلى الحقبات السابقة.
عندما يصبح نحو 55 بالمئة من اللبنانيين تحت خط الفقر، وترتفع نسب البطالة إلى معدلات غير مسبوقة، وتقفل المؤسسات والشركات والمحال التجاريّة بصورة يوميّة مخيفة، وترتفع طلبات الهجرة إلى الخارج في نزيف هائل للأدمغة والموارد البشريّة التي لطالما تميّز بها لبنان؛ عندئذ لا بد للقوى القابضة على السلطة أن تسعى، كيفما اتفق، للإفراج عن الحكومة المنتظرة التي من شأنها أن تكون بوابة لبنان إلى العالم الذي يترقب وينتظر ويراقب مشدوهاً، كيف تقع الخلافات بين أهل السلطة بدم بارد حول الحصص والأحجام والمنافع، في الوقت الذي تتراجع فيه كل مقومات الصمود لدى اللبنانيين.
كما أن سياسة تقريع المسؤولين اللبنانيين على ما يرتكبونه من مماطلة وتسويف في عمليّة التأليف بلغت حدوداً غير مسبوقة في الأعراف الديبلوماسيّة وفي العلاقات السويّة بين الدول. وكأن تلك الدول تخشى على الشعب اللبناني أكثر من بعض مسؤوليه “غير المسؤولين”.
ولكن، مع التأكيد على أهميّة الضغط الدولي الذي تمظهر من خلال التحركات المكوكيّة للسفراء العرب والأجانب بين المقار الرئاسيّة والسياسيّة، ففي نهاية المطاف لا بد من قرار لبناني – لبناني يرتكز حصراً على المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة ويتيح متنفساً سياسيّاً وإقتصاديّاً وإجتماعيّاً ومعيشيّاً للبنانيين. ولا بد من قرار محلي بالتفاهم على تأليف الحكومة الجديدة بمعزل عن حسابات الأطراف الخارجيّة الداعمة لهذا الطرف أو ذاك وتريد تحقيق المكاسب السياسيّة.
لقد آن الأوان أن تترفع كل الجهات السياسيّة، لا سيّما الرئاسيّة منها، عن أي حسابات مصلحيّة وفئويّة، كي يتمكن لبنان من إجتياز هذه المرحلة المفصليّة والصعبة من مصيره من دون أن يتكبد المزيد من الخسائر والأثمان والأكلاف على مختلف المستويات.
لبنان يستحق العناء، فبادروا قبل فوات الأوان… إن لم يكن قد فات!