لا يدخل لبنان مرحلة تأليف الحكومة، رغم كل الإشكالات حولها بين الكلام عن اعتذار الرئيس المكلّف سعد الحريري والبحث عن بديل له، بقدر ما يدخل في مرحلة الانتخابات النيابية قبل ما لا يقلّ عن سبعة أشهر على إجرائها. ورغم أن الاستحقاق الأول يعدّ الحاجة الأكثر إلحاحاً، إلا أن أداء قوى السلطة والمعارضة، وتحرك القوى الخارجية، يصبّ في إطار تأمين أفضل الظروف لإجراء الانتخابات. وإذا كان مفهوماً للعواصم المعنيّة عادة بلبنان أن تتحرّك لتأمينها كما فعلت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إلا أن أداء الأحزاب والشخصيات السياسية يظهر فاقعاً في الاهتمام بإجرائها، ليس كموعد دستوري يفترض احترامه، وإنما على طريق إعادة رسم خريطة المجلس النيابي تمهيداً لانتخابات رئاسة الجمهورية.
لكن على طريق الإعداد لإجراء الانتخابات، تقف القوى السياسية أمام الاستحقاق، من دون برامج سياسية ولا عناوين فضفاضة، وغير معنية بكل الأزمات المعيشية والمالية التي يعانيها اللبنانيون. اهتمام الأحزاب ينصبّ على أمرين: إجراء استطلاعات للرأي استعداداً لاختيار المرشحين والدوائر التي قد تشهد معارك، رغم أن من المبكر استخلاص نتائج صحيحة في هذه المرحلة؛ وتأمين صندوق الإعاشة كمعبر لصندوق الاقتراع.
عادةً، كان الصيف الذي يسبق الانتخابات مخصصاً للزيارات والجولات الانتخابية، والوعود بالإصلاح والتغيير والجمهورية القوية، في لبنان والاغتراب. في صيف ما قبل الاستحقاق المقبل، في ظل الأزمات المتلاحقة، تحاول بعض الأحزاب الاستعاضة عن الجولات التي قد تخلق حساسيات في جماهير غير حزبية، بإعادة تفعيل خطط الاستعانة بالمغتربين لإعداد صناديق الإعاشة وتوزيعها على النواب في مناطقهم، لتأمينها لناخبيهم. وبقدر ما تنهار الليرة، يصبح صندوق الإغاثة ملائماً أكثر. وقد بدأ موسم الصناديق مجدداً بعد استراحة أشهر قليلة، لتعود بزخم في عزّ الحاجة إليها. لكن عدا ذلك، ما هو برنامج عمل هذه الأحزاب في خوض الانتخابات؟
رغم كل الانتقادات التي طاولت الإقطاع على مدى سنوات، بدا في وقت الأزمات متميّزاً عن بقية القوى بأنه أكثر فاعلية وأكثر تنظيماً ومعرفة بشؤون الناس وتأمين كل متطلباتهم، كما هي حال بعض دوائر الإقطاع التقليدي. وحيث الإقطاع، لا ضرورة لبرامج مرشحين، فيما تخوض الأحزاب، التي انتفضت عليه، الاستحقاق ببرامج باهتة منفصلة تماماً عن الواقع المعيشي للناس. وتكفي مراجعة تصريحاتهم، وخواء معاركهم السياسية في ظل ازدياد فقر اللبنانيين، للدلالة على أن القادة السياسيين لم يكونوا يوماً هامشيين بقدر ما هم عليه اليوم. والحديث عن القادة المسيحيين لا غيرهم في هذا السياق مردّه إلى واقع أن الانتخابات النيابية تكاد تكون محصورة بالمسيحيين منذ عام 2005، في مقابل نتائج شبه محسومة مسبقاً لدى المسلمين.
يعرف الراعي أن ما طلبه البابا فرنسيس سيبقى حبراً على ورق ما دام هو ومن وصلت إليهم الرسالة مصرّون على التعامي عنه لمصالح ماليّة وشخصيّة
فهل يعرف مثلا رئيس التيار الوطني الحر، وزير الطاقة السابق ووزير الظل الحالي، جبران باسيل أن قرى الجبل التي كان يجول في أطرافها، ويتفقّد أديرتها ويصلّي أمام صلبانها المرفوعة، فارغة من سكانها لأن الكهرباء مقطوعة بما يعادل 22 ساعة في اليوم، فيما مقرّ اللقلوق عامر بالأضواء؟ وهل يعرف أن المياه لا تصل إلى البلدات الجبلية، نتيجة أعطال الكهرباء؟ وهل يعرف أن كل الكلام عن الصلاحيات والتعديلات، والمواد الدستورية وخلافه مع الرئيس المكلف وحقوق المسيحيين، يصحّ في أيام الرخاء الاقتصادي والكهرباء 24/24، وليس عند انقطاع الكهرباء والبنزين وتعذّر الدخول الى المستشفى، وأن إعانات نوابه للناس لا تغني عن الدواء المفقود ولا عن المازوت للمولدات الكهربائية؟
وهل يدرك رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أن الانتخابات النيابية التي يراهن على إحداث تغيير فيها، وقلب المعادلات داخل المجتمع المسيحي، ستكون مبنية على هجرة المئات من الناخبين الجدد الشباب الذين لم يقترعوا في الانتخابات الفائتة، بعد فقدان كل فرص العلم والحياة اليومية؟ وهل يعلم أن «الازدهار» الصيفي نتيجة مجيء المغتربين ليس سوى مرحليّ، وأن المغتربين باتوا صندوق إعاشة لآلاف الناس… من كفرشيما الى المدفون؟
وهل يعرف البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أن ما صرفه ويصرفه والمقربون منه، على الحملات الإعلامية للترويج لمواقفه اليومية المتناقضة الجوفاء، لا تسدّد قسطاً مدرسياً، ولا تطعم جائعاً ولا تدفع ثمن أدوية أو ثمن علاج في المستشفيات؟ وهل يعرف أن المؤسسات المارونية الصحية والتربوية باتت منفصلة تماماً عن الواقع الحقيقي لحاجات الناس ومتطلباتهم؟ وهو يعرف أن ما طلبه البابا فرنسيس سيبقى حبراً على ورق ما دام هو ومن وصلت إليهم الرسالة مصرّون على التعامي عنه لمصالح مالية وشخصية.
خلال إطلالته الأسبوعية من المستشفى، حيث يعالج، تحدث البابا فرنسيس عن أهمية الرعاية الصحية وطالب بحق الجميع في رعاية صحية وطبية لائقة، فلا يحرم أحد منها. البابا الآتي من الأرجنتين التي عرفت معنى الحرمان من الرعاية الطبية، كان قد أنهى لقاءً مع بطاركة المشرق حول الوضع المأسوي في لبنان، حيث الهمّ الفاتيكاني الأول يتمحور حول كيفية تأمين الطبابة للبنانيين وكيف تستمر المدارس في التعليم. في المقابل، لم يبق مسؤول في لبنان إلا وتمنّى النجاح للمؤتمر، أو شارك البابا الصلاة! لكن فعلياً، ماذا قدم هؤلاء في الأسابيع الأخيرة للبنانيين، غير الكلام عن الصادرات والصلاحيات مستخدمين الانهيار المعيشي مادة دسمة إعلامياً وانتخابياً، للترويج المبكر للاستحقاق عام 2022. فأيّ مجلس نيابي سيكون عليه لبنان حينها، إذا كان البرنامج الوحيد للانتخابات صندوق الإعاشة، في زمن الفقر والجوع والمرض؟