IMLebanon

الساكت عن الحق…

 

 

«إنّ أدنى مراتب الجحيم مرصودة لمن يأخذون موقف الحياد في الأمور ذات الطابع الأخلاقي». (دانتي اليغيري في «الكوميديا الإلهية»)

 

لست الوحيد بين السياسيين الذين يشعرون بالغصص من كونهم كانوا، أو ما زالوا، في موقع ما في ما يشبه السياسة في لبنان. فكلما سمع أحدنا الشباب يهتفون بشعار «كلن يعني كلن» يبدأ بالنظر إلى نفسه في المرآة على أساس أنّه المعني بالموضوع. لكن الواقع المرير هو أنّ المعنيين الحقيقيين بالموضوع، كمتهمين أو كمدانين، لا يشعرون أبدًا بالغصص ولا بالقلق ولا حتى ببعض توبيخ الضمير من سماع هذه الشعارات. هم بالذات يظنون أنّهم قاموا بما يستدعيه موقعهم من مسؤوليات «ليطعموا جماعتهم» ويستطعمون هم بما تيسّر من رزق «حلال»، لكونهم من الشعب أيضًا! وهنا، وبالفعل، فقد أطعم هؤلاء جماعتهم واستطعموا بعيون مفتوحة ومن دون أن يرف لهم جفن، على أساس أنّه تعويض عمّا لم يأكلوه في السابق.

 

كلام أحد قادة الأحزاب ما زال يرن في مسمعي بقوله: «لقد سرقتم البلد لسنوات واليوم دورنا»، وكلام قيادي آخر يقول: «صحتين على قلب الشاطر»، وثالث: «نحن علينا التصرف على أساس اننا بلد كل مين يده له». المؤسف هو أنّ هذا الكلام الساقط والبعيد عن منطق الشأن العام الذي يردّده «مسؤول» ما، هو أيضًا مدار تعاطف الجموع من المناصرين وحتى من المنافسين مع هذا المنطق. هذا الأمر خطير الى درجة أنّ التنافس بين القبائل المذهبية الطائفية تحوّل على مستوى الشعب إلى منطق حق «الهبش» على قدر المستطاع. أي أنّ السنّي يتكنّى ويتمثل بالشيعي، عندما يطالب السياسي بحصته في «الهبش»، والمسيحي يتكنّى بالمسلم في الموضوع نفسه.

 

هنا يصبح الخيار محصورًا بالاحتمالات التالية: أن يستحصل المسؤول على حصة «المواطن» بالهبش، وفي المقابل يردّ له الجميل في الولاء «بالدم والروح» وبالتصويت يوم الانتخابات. أو أن يعتذر المسؤول عن الخدمة بحجة أنّها فوق قدرته، فيرتد عنه المواطن بحجج عدة كقول إنّه «لا يخدم» أو أنّه يحصر الخدمات بالمقرّبين منه أو أنّه ضعيف… في المحصلة، فسيكون الحساب بالانفضاض عنه وربما عدم التصويت له يوم الانتخاب. أو الاحتمال الثالث وهو أن يردّ المسؤول الطلب بحجة أنّه مخالف للقانون! مثل أن يدعم مهرّب مخدرات مقبوض عليه بالجرم المشهود بتوصية عند المحقق أو القاضي، أو أن يُنجّح تلميذاً راسباً في امتحان لينتقل إلى صف أعلى، أو أن يتوسط لدى لجنة الكولوكيوم التي يمثل أمامها طبيب ما، أو أن يصبح أستاذ جامعي غير معروف الأصل في علمه وشهاداته عميدًا أو رئيس قسم تستند إليه تربية الأجيال… والحبل على الجرار!

 

هنا أردّد الجواب من مواطنين سمعتهم «يعني وقفت عندي» أو «لو كنت من الطائفة الفلانية لحصلت على ما أريده بسهولة» أو «زميلك فعلها لغيري فلم أنت حنبلي؟»… وفي النهاية يصبح الوضع في حلقة مفرغة ما بين المطالب الشعبية في «الهبش» أسوة بـ»الهابشين»، أو بالإقصاء المنطقي عن موقع المسؤولية. والأمثلة معروفة وشائعة عن وزراء ونواب «لا يخدمون ولا يهبشون!» سقطوا في امتحان الانتخابات بمختلف أشكالها، والأمثلة هي في لائحة لا تنتهي من الأسماء التي لن أذكرها خوفًا من شطط النسيان.

 

 

الواقع هو أنّ البلد لا ينقصه من هم من الصنف الذي «لا يخدم ولا يهبش»، لإقتناعهم أنّ خدمة المواطن تبدأ بتأمين التشريع المفيد للاستقرار ولضمان رشاد الحكم والإدارة وتفعيل منطق الجدارة وحماية الناس من شرّ الانهيارات المفاجئة، أكانت في المرفأ أو في الكهرباء أو المحروقات أو في سعر الصرف أو في حرب عابرة للحدود أو اغتيال رئيس أو قائد أو نائب لا يخدم أو ربما يخدم أكثر من اللازم…

 

 

لكن، ورغم كل ذلك، فإنّ ذلك لا يرحم المسؤول الذي «لا يخدم» من المسؤولية عن السكوت عن مواطن الخلل، بحجة أنّ الوصول إلى الحكم يستدعي التسويات مع الشواذ، على نية الإصلاح والتغيير لاحقًا. لا أبغي من استخدام التعبير البرتقالي أن أحصر القضية بمسؤوليه، فكل ألوان الأحزاب والمنظومات جزء لا يتجزأ من المنظومة التافهة التي تتستر على الشذوذ بحجة الوصول إلى الحكم أو المسؤولية، ومن بعدها «خذ على إصلاح». لكن التجربة أثبتت، منذ اليوم الأول لاستقلالنا المشؤوم، هو أنّه كما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته «من لا يصانع في أمور كثيرة .. يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم». وهنا يعني أنّ من لا «يهبش» أو يسكت عن «الهبش» يقصيه. إما «كارتيل» السلطة والمصالح، أو الواقع الشعبي الباحث عمن «يخدم و»يهبش» بإسم الشعب» أو بالدارج «يأكل ويطعمي»، سيُعاقب بالإقصاء حتمًا.

لكل ذلك، فإنّ حصر المسؤولية في من هم في السلطة فقط، قد يكون فيه نوع من تجهيل الفاعل المختبئ وراء ما هو بديهي، لكون المسؤول هو المسؤول، أي أنّ البديهي هو أنّ الحق على المسؤول. لكن بناء الدول يحتاج الى مواطن هو مسؤول أيضًا، وإلّا سنبقى في حلقة مفرغة، أو بالأحرى ندور في دوامة متوجّهة دائمًا نحو القعر. أنا أعلم أنّ البعض ممن سيقرأون هذه المقالة سيتهمونني بأنني أحابي من هم في الحكم «لغاية في نفس يعقوب»، لكن محاباة «الشعب» في «الخدمات» هو الجزء الأسوأ في ما وصلنا إليه اليوم، وهو ما منع «الإصلاح والتغيير» من الوصول إلى غاياته. والساكت عن الحق شيطان أخرس!