منذ فترة غير قصيرة والفاتيكان يطرح بشكل ملحّ في المحافل الدولية ملف الأزمة اللبنانية. والمعروف عن ديبلوماسية الفاتيكان بأنّها ديبلوماسية صامتة. فعلى الرغم من فعاليتها، الّا أنها تعمل بعيداً من الضوضاء والضجيج.
ومنذ شهور عدة أيقن الفاتيكان انّ لبنان في قلب أزمة تهدّد وجوده، وهو مقتنع بأنّ اسباب هذه الأزمة خليط عجيب من الصراعات الاقليمية، اضافة الى الأنانيات الذاتية لبعض الفرقاء السياسيين اللبنانيين. وكان الفاتيكان قد استقبل خلال المرحلة الماضية وزير الخارجية الاميركية انتوني بلينكن ووزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان مرتين، وتواصل مباشرة مع الرئيس الاميركي ومسؤولين المان واوروبيين. وتجزم اوساط ديبلوماسية مطلعة، بأنّ الكرسي الرسولي كان في كل اجتماع او لقاء او حتى اتصال، يطرح الملف اللبناني بإلحاح. وفي المقابل، كان يسمع عبارة سحرية واحدة تشكّل مدخلاً للحل في لبنان: ولادة حكومة وإقرار الاصلاحات.
بين الفاتيكان واوروبا وعلى وجه الخصوص فرنسا، علاقة وثيقة وحميمة، لذلك عبّرت فرنسا عن التزامها بتقديم المساعدات المطلوبة فور إنجاز حكومة اصلاحات. لا بل قيل انّ لودريان ألمح الى احتمال رفع أرقام المساعدات اذا تبين انّ لبنان بحاجة الى اكثر مما حُدّد.
أما العلاقة بين الفاتيكان وإدارة جو بايدن فهي في افضل احوالها، ليس لأنّ بايدن كاثوليكي، بل لأنّ السياسة التي ترتكز عليها ادارته تقوم على التعاون الدولي المتعدد الأطراف، وخصوصاً مع اوروبا، بخلاف السياسة الأحادية لإدارة ترامب. وبالتالي، فإنّ التشاور قائم بقوة بين واشنطن والفاتيكان. وقيل إنّ الفاتيكان تلقّى التزاماً واضحاً من ادارة بايدن بألّا يدفع لبنان ثمن التسويات في الشرق الاوساط، وكذلك حماية مستقبل المسيحيين في آخر ساحات وجودهم في الشرق الاوسط. الّا أنّ الالتزام الاميركي أُرفق بنصيحة تقول إنّ على المسيحيين ايضاً حماية انفسهم من أنفسهم.
في الواقع، تتحضّر واشنطن بدءاً من الاسابيع المقبلة الى وضع الملف اللبناني على الطاولة، خصوصاً أنّ تعاونها مع اوروبا أصبح أكبر، لا سيما بعد المشهد الجديد في افغانستان، والذي سيدفع باتجاه تعزيز عمل حلف «الناتو» من جديد.
ثمة مؤشرات لا بدّ من التوقف عندها ملياً وقراءتها بتروٍ.
1- لماذا لم تُسجّل ردود فعل اميركية قوية حيال اعلان امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله عن بواخر المحروقات باتجاه لبنان؟ واستطراداً، لم تُسجّل ردة فعل قوية ايضاً من قوى لبنانية حليفة للولايات المتحدة؟
2- الزيارة التي سيقوم بها ثلاثة وزراء لبنانيين هم زينة عكر وغازي وزني وريمون غجر، بعد أقل من اسبوع الى سوريا والاردن ومصر، في اطار استكمال ما طرحته السفيرة الاميركية في لبنان حول تزويد لبنان بالغاز والطاقة الكهربائية، ألا تشكّل هذه الزيارة خصوصاً في محطتها السورية خطوة تحمل معاني سياسية؟
3- وصول اول شحنة للنفط العراقي الى لبنان مبدئياً في منتصف ايلول، وهو ما سيعني السماح برفع مستوى التغذية لساعات عدة يومياً. هذا الدعم العراقي للبنان يحصل في ظل حكومة الكاظمي، والتي تشكّل تقاطعاً اميركياً – ايرانياً.
4- المؤتمر الاقليمي الذي عُقد في بغداد بمشاركة الرئيس الفرنسي.
ومن الطبيعي أن يتطلب انعقاد هذا المؤتمر مناخاً ملائماً، خصوصاً انّ ايران كانت من ابرز المشاركين فيه.
5- الاعلان عن انّ الرئيس الاميركي تلقّى من رئيس الوزراء الاسرائيلي في اول لقاء بينهما وعداً بعدم القيام بحملة اعلامية واسعة ضدّ التوقيع على الاتفاق مع ايران في حال حصوله.
كل ذلك يؤشر الى انّ ثمة بوادر جدّية لبدايات تسويات وتفاهمات ستشمل لبنان.
لذلك من الضروري ان تكون للبنان حكومة قادرة على البدء بالاصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي، لتواكب المسار التفاوضي المتوقع.
كذلك فإنّ هذا المناخ لا يوحي بأنّ عرقلة الحكومة هي نتيجة قرار خارجي.
حتى «حزب الله»، صحيح أنّه يتحاشى الضغط المباشر على رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، وهو ما يترك علامات استفهام. لكن الأمين العام السيد حسن نصرالله، تحدث بما يشبه التأنيب او حتى «التقريع» عندما تساءل قائلاً: «اما آن لهذا النقاش حول الحقائب والأسماء ان ينتهي؟ لا بل فإنّ مصادر في «حزب الله» كشفت انّه في حال استمرار تذرّع البعض باستقدام سفينة المحروقات الايرانية الى لبنان كسبب لعدم ولادة الحكومة، فإنّ اقتراحاً جدّياً يجري درسه، ويقضي بالإعلان عن توجّه هذه السفينة الى الشاطئ السوري، على أن يجري تفريغها الى لبنان بواسطة الصهاريج، ما يعني عملياً أنّ الاسباب الفعلية لعدم الولادة الحكومية هي اسباب داخلية وتتعلق بالحصص والثلث المعطّل.
في الواقع، كادت الحكومة ان تولد الاسبوع الماضي. وعندما انتقل الرئيس نجيب ميقاتي الى قصر بعبدا ومعه التصور الحكومي المكتمل، كان الانطباع المبني على المشاورات المكثفة التي سبقت، بأنّ امام الحكومة اياماً معدودة قبل ان ترى النور. وكان الانطباع يومها انّ عِقدة وزارة العدل والتي كانت لم تُحسم بعد، قابلة للحل خلال يوم او يومين او ثلاثة على أبعد تقدير.
كان الرئيس ميقاتي يدرك جيداً أنّه سيضع تصوره للحكومة لدى رئيس الجمهورية، الذي سيجري دراسته واقتراح تعديلاته سريعاً قبل ولادة الحكومة. لكن المناخ تبدّل فجأة وظهرت عقد جديدة، وهو ما عبّر عنه ميقاتي خلال مقابلته التلفزيونية، عندما قال، انّه مع بداية كل لقاء جديد نعود في مشاوراتنا الى المربّع الاول، اي بمعناه انّ هنالك من يعدّل في التفاهمات التي كانت تحصل بينه وبين الرئيس عون، والمقصود هنا طبعاً هو جبران باسيل.
لكن ثمة رسالتين توجسّ منهما ميقاتي، وقد يكون اعتبرهما رسالتين سياسيتين بلبوس قضائي.
الرسالة الاولى كانت بإعلان القاضية غادة عون مذكرة بحث وتحرٍ بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في الوقت الذي كان يتحضّر فيه ميقاتي لزيارة قصر بعبدا وتقديم لائحته المكتملة.
والرسالة الثانية جاءت على الفور بعد زيارته رئيس الجمهورية، حيث صدرت مذكرة إحضار قضائية بحق رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب.
وقد يكون هذا ما دفع بالرئيس ميقاتي الى اعلان مواقفه عبر شاشة تلفزيون «الحدث»، مع الاشارة هنا الى انّ شركة «الفاريز» وقّعت على عقد التدقيق الجنائي، والتزمت رفع تقريرها خلال 12 اسبوعاً. فألا يستوجب هذا تشكيل حكومة اذا كان المطلوب فعلاً معرفة نتائج التدقيق؟
الواضح انّ نجيب ميقاتي هو آخر شخصية سنّية قد تُكلّف تشكيل الحكومة.
وفي حال اعتذاره، فإنّ البديل سيكون المجهول، وسط مواجهات ستحصل ما بين رئاسة الجمهورية والطائفة السنّية. لذلك تواصلت باريس مع ميقاتي ونصحته مرة جديدة بعدم الاعتذار. أضف الى ذلك، أن لا رغبة جدّية لدى ميقاتي حتى الآن للاعتذار.
لكن السؤال هو، عن الهدف الفعلي المطلوب من عرقلة ولادة الحكومة؟ فالاوساط الديبلوماسية الاوروبية لا تجد مصلحة لـ»حزب الله» بعدم ولادة الحكومة.
وبخلاف بعض التحليلات، فإنّ هذه الاوساط ترى أنّ مصلحة «حزب الله» هي بولادة الحكومة. فالمنطقة باتت امام مشهد مختلف بعد عودة طالبان الى السلطة في افغانستان، وانتعاش التيارات المتطرفة والارهابية، وهو ما يتطلب وجود سلطة قادرة على المشاركة في الحماية، لا دفع الامور باتجاه تفكّك الدولة.
وبالنسبة للرئيس عون وخلفه النائب باسيل، فإنّ ما يجري تداوله عن وجود توجّه لديهما لاقتناص ثلث معطّل صافٍ، وإلّا فلتذهب الامور باتجاه الفراغ، وهو ما سيعني عدم حصول انتخابات نيابية، وبالتالي سقوط المجلس النيابي، كما استمرار الرئيس عون في قصر بعبدا بحكم الامر الواقع، وتسيير شؤون البلاد، تمهيداً لصياغة تفاهمات دستورية جديدة. وتعتقد هذه الاوساط، انّ هذا التصور في حال صح، هو تصور جنوني وغير واقعي، وأنّ ترك الامور تذهب في هذا الاتجاه، ستعني بالتأكيد نتيجة تشبه نتيجة من يلعب الروليت الروسية، اي أنّه سينتهي به المطاف في إطلاق النار على رأسه.
بالمناسبة، فإنّ الرئيس حسان دياب الذي سيبقى مستمراً في موقعه كرئيس حكومة تصريف الاعمال، أصبح على مسافة أقرب من نادي رؤساء الحكومة السابقين وأبعد من دون شك من قصر بعبدا.