لا حجةٌ ولا تبرير ولا موجب قانونيٌّ أو أخلاقي أو دستوري لحجب أموال الناس عنهم. فبأي حق تُحتجز الأرزاق، بأي حق تسطو المصارف على المقابل المادي لتعب الناس؟ وأياً تكن الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم، بأي حق أو حجة تتحكم زمرة من رجال الأعمال والسياسة والاقتصاد والمجتمع بأجور البشر وجنى عمرهم وأرزاقهم وأملاكهم؟
وبعد التمادي في التجليات الأخيرة لجريمة السطو والنهب لأشهر طويلة من دون أن يقدم لا القضاء ولا قوى الأمن ولا الأمن العام ولا الجيش ولا أمن الدولة ولا كل من يدّعي الشرعية والحرص على الوطن والمواطن والعدالة ولا كل من يكرر الوعود بالالتزام بالدستور والقانون والأخلاق، على إعادة المال إلى أصحابه، ها هي حكومة حسان دياب تبصر النور وهي على وشك نيل ثقة من يفترض أن يمثّلوا الناس.
أمِن خلال الإتيان بحكومة فيها مَن فيها من خبرات متنوعة متخصصة في الدفاع عن عصابة جمعية المصارف تنالون ثقة الناس؟ أمن خلال دفاع وزير الداخلية المستميت في الدفاع عن ضباط الأمن والعسكر بدل أن يتمسك بالقانون قبل كل شيء، وبدل أن ينتظر نتائج التحقيق مع من تبنى سلوكيات قمعية كالضرب والسحل وقلع العيون، تنالون ثقة الناس؟
ولا للحظة ولا بأي ظرف من الظروف يمكن لأيّ كان، مهما علا شأنه وأياً تكن صفته أو مكانته أو نظافة كفه، أن يسمح أو يتساهل أو يتغاضى عن واجب فكّ حجز المصارف لأموال الناس.
فلو أراد الوزير محمد فهمي والوزيرة ماري كلود نجم والوزيرة زينة عكر المكلفون حقائب الداخلية والعدل والدفاع، أن يُمنحوا وتُمنح المؤسسات التي تخضع لسلطتهم، الحد الأدنى من الشرعية، لأقدموا اليوم، الآن، فوراً، وقبل أي عمل أو كلام أو تحرك، على إرغام المصارف على تسليم الناس أبسط حقوقهم: أموالهم.
ولو رفضت المصارف أو تلكّأت في تسليم الناس أموالهم المودعة لديهم، فلا بدّ من استخدام كل الوسائل المتاحة أمام مؤسسات الدولة، بما في ذلك القوة العسكرية والأمنية، بل ولا بد للجيش والقوى الأمنية اقتحام مسرح الجريمة المتمادية وإعادة الحق إلى أصحابه ووقف السطو المستمر أمام أعين الجميع. فبعد مرور أشهر طويلة من التمادي في الجريمة، لا شك في أن السكوت عنها أو التساهل معها هو تطبيع مع الظلم وتهريب مبطّن للمجرمين وتجهيل لمسؤولياتهم القانونية والأخلاقية والإنسانية، وتبرئتهم عملياً في سجلات الدولة والتاريخ.
وكل يوم، كل دقيقة تمرّ من دون تحرّك القضاء والعسكر وقوى الأمن وكل من في الدولة لوقف السطو على أموال الناس هو يوم تكرس فيه لاشرعية الحكومة، لا بل لاشرعية العهد بكل من فيه.
أما ادّعاء البعض بأن إرغام المصارف على تسليم الناس أموالهم قد يؤدي إلى الانهيار المالي والاقتصادي الكامل فهو كلام خطير يطيح بحد ذاته بكل شيء، حيث إن التهديد بالانهيار رداً على المطالبة بأبسط الحقوق يشكل الضربة القاضية على ما تبقى من العقد الاجتماعي في لبنان.
ولا بد من التذكير هنا والتشديد على أساس قيام الدولة. وبما أن الشرعية تأتي من التزام الدولة واجباتها في خدمة الناس وتأمين حقوق المواطنين والمواطنات، فلا شرعية لجميع من هم في السلطة دون ذلك. لا بل إن إقدام مواطن على اقتحام مصرف يحتجز أمواله بالقوة، بعد مرور أشهر على مناشدته الدولة باسترجاعها، هو، بالرغم من كونه فعلاً غير قانوني، عملٌ تزيد شرعيته عن شرعية من يتلكأ أو يمتنع في الحكومة وفي العهد عن إحقاق الحق.
في حكومة حسان دياب وجوه جديدة وبعض الأشخاص المعروفين بأخلاقهم الرفيعة وعلمهم الغزير وضميرهم الإنساني والتزامهم مبادئ الحق، فهل يتنازلون عن كل ذلك مقابل تولي حقيبة وزارية؟ أو من أجل ما يعتبرونه قضايا أسمى أو أهم من كرامة وحياة مواطنين؟ أم تكون لبعضهم شجاعة تسجيل موقف لبناني ديمقراطي حقوقي شريف، موقف للمُثل العليا والأخلاق… موقف قد يكون لبعض شباب وشابات لبنان آخر بصيص أمل في حلم بناء دولة محترمة لجميع أبنائها وبناتها، وذلك من خلال شجاعة التنحّي عن مسؤولية التلكّؤ والتساهل والسكوت عن الجريمة المتمادية؟