IMLebanon

البوصلة السياسيّة الضائعة!

باستطاعة الحكومة أن تكرّر معزوفة “التركة الثقيلة” عشرات المرّات في اليوم الواحد وأن تجعلها شعارها المفضّل، فتكرّس “سياسة النّق” بدل العمل والانتاج والإصلاح الذي وعدت به اللبنانيين، من دون أن تحقق أي تقدّم يُذكر قيد أنملة في أي من الشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة والماليّة والنقديّة.

وتُذكّر سيمفونيّة “التركة الثقيلة” بمطلع عهد الرئيس السابق إميل لحود الذي انطلق بخصام وصدام مع قوى سياسيّة وازنة في البلد تحت شعار “دولة المؤسسات والقانون”، وانتهى به عهده معزولاً في قصر بعبدا لا يزوره سوى عدد محدود من المتزلفين الهامشيين الذين لا يتعدون عدد أصابع اليد الواحدة. ويذكر اللبنانيون تلك الحقبة جيّداً وقد أرغم فيها المجلس النيابي على تمديد الولاية الرئاسيّة بالقوة لثلاث سنوات كانت الأسوأ في تاريخ لبنان المعاصر، لا سيّما لما سجلته من اغتيالات سياسيّة وفي مقدّمها إغتيال الرئيس رفيق الحريري (وتحيّة بالمناسبة إلى الشهيد باسل فليحان الذي حلّت ذكرى استشهاده منذ أيام معدودة).

إلا أن العهد الحالي تجاوز عهد لحود من حيث التراجع والتقهقر الاقتصادي والاجتماعي الذي بلغ مستوياتٍ غير مسبوقة، حتى قبل انتشار وباء “كورونا” الذي وفّر للحكومة فترة سماح إضافيّة لم تستفد منها لانجاز أو إطلاق أي ملف إيجابي، بل على العكس، هرّبت تعيينات إداريّة ناقضت من خلالها الشعارات التي رفعتها لناحية “إستقطاب الكفاءات”، فإذا بها تطبّق سياسة المحاصصة مع القوى التي تدعمها وتلوّح لها عند كل منعطف بورقة الاسقاط أو التطويق، فيما تدّعي أنها تعتمد معايير الكفاءة في ما خص القوى الأخرى التي عارضتها! أين وحدة المعايير؟

ليس من الصعب على الحكومة، بطبيعة الحال، أن ترمي التهم على القوى السياسيّة التي تقول أنّها تحكمت بالبلاد لمدة ثلاثين عاماً خلت، ولكن كيف لها أن تتغاضى عن أنها تضّم في صفوفها من يمثلون تلك القوى وهي “تراعي خواطرهم” في الشاردة والواردة؟ والأهم من ذلك، كيف يمكن للحكومة أن تشيح بوجهها عن تبنّيها بالكامل لخطة وزارة الطاقة والمياه لاصلاح قطاع الكهرباء، وهي ليست سوى تتمة لخطط الوزراء السابقين الذين فشلوا فشلاً ذريعاً، أقله منذ العام 2005، في توفير الطاقة للبنانيين بعد سنواتٍ من المعاناة؟

ثمة فضيحة تتصل بتلزيمات محطات التغويز (رغم أن لبنان لا يزال بعيداً عن استخراج النفط والغاز بما لا يقل عن أربع سنوات)، فبعد أن وافق مجلس الوزراء في جلسة سابقة على إنشاء محطة تغويز واحدة (بينما تطلب الوزارة المعنيّة إنشاء ثلاث محطات أسوةً بمصر أكبر دولة عربيّة وعدد سكانها 200 مليون نسمة!)، عاد وعدّل قراره إرضاءً لطرف سياسي ووافق على إنشاء محطتين والتحضير للثالثة!

غنيٌ عن القول طبعاً أن وزارة الطاقة والمياه لا تعترف يما يُسمّى “إدارة المناقصات” وترفض أن تتم التلزيمات من خلالها، وذلك في إطار سياساتها الشفافة والواضحة والمطابقة للقوانين والأصول المرعيّة الإجراء!

لقد سقطت الذريعة التي لطالما أشار إليها فريق العهد: “كنا ننوي القيام بالاصلاحات ولكننا مُنعنا من ذلك!”. هل يستطيع هذا الفريق أن يُفسّر للبنانيين كيف يمكن منع أكبر كتلة برلمانيّة في مجلس النواب تتمثّل بالحكومات المتتالية بأعداد كبيرة من الوزراء (وصل عددهم في إحدى الحكومات إلى عشرة وزراء) ويجلس رئيسها على كرسي الرئاسة الأولى في بعبدا، ثم تقول للرأي العام أن ثمة من منعها عن تنفيذ الاصلاحات! (طبعاً، شعار “الاصلاح” لا يعدو كونه يُستخدم مراراً للاستهلاك الشعبي وهو خالٍ من أي مضمون أو ممارسة سياسيّة فعليّة).

إذا كانت الرئاسة الأولى والكتلة البرلمانيّة الأكبر والتمثيل الوزاري الوازن في كل الحكومات غير كفيل بإطلاق الاصلاح كما يدّعي هؤلاء، فما هو الكفيل بذلك؟ لعل الحكومة ضيّعت البوصلة السياسيّة وتناست أن بعض التيّارات التي تدّعي دعمها إنما هي شوكة في خاصرتها!