Site icon IMLebanon

هل يُدرك أهل الحكم بأي مُنقلب ينقلبون؟

 

ما يجري في سوق الليرة هذه الأيام، يُذكرنا بما كان يحصل إبان فترة الحرب البغيضة في أواسط الثمانينات، حيث تحوَّل التلاعب بسعر صرف الدولار إلى أداة ضغط، يتناتشها المتحاربون في معارك الزواريب، ومواجهات خطوط التماس في العاصمة، بحيث كان يكفي أصغر اشتباك بين فصيلين مسلحين، ليهبّ سعر الدولار على حساب الليرة، ويُحقق قادة الميليشيات الأرباح السريعة، ولا سيما أن تمويلهم القادم من الخارج كان يصل بالعملة الخضراء!

 

الانهيار المتسارع لليرة يعود في الدرجة الأولى إلى تحوّل سوق الصرف إلى ساحة للكباش السياسي، بين أحزاب الحكومة والأحزاب المعارضة، فضلاً عن الضغوط المتزايدة من الخارج، لمنع وصول الإمداد الأخضر في زمن العقوبات على حزب الله، والذي تحوّل إلى حصار اقتصادي ومالي على لبنان كله.

 

لا شك أن غياب المعالجات السريعة والناجعة للأوضاع المالية والنقدية المتردية، وسقوط الحكومة في الخلافات بين أطرافها حول الخطة الاقتصادية، والعلاقة مع صندوق النقد الدولي، والتعيينات المالية في البنك المركزي، وتجميد التشكيلات القضائية، والضرب عرض الحائط بشعار ومبادئ استقلال القضاء، كلها عوامل فاقمت حالة التأزم والاختناق التي يعيشها البلد، منذ اندلاع انتفاضة ١٧ تشرين، وما قوبلت به من تعنت وتنمّر وإنكار، من قبل أهل السلطة ومعظم السياسيين، رغم إنها أطاحت بما كان يسمى «حكومة العهد الأولى»!

 

تعطيل العملية الإصلاحية والإنقاذية، بسبب تلك الخلافات من جهة، وما تبدّى من عجز فادح لحكومة «الاختصاصيين» في مقاربة هذه الملفات الشائكة، دفع بفريق العهد الحالي إلى البحث عن ضحية تُقدّم على قربان الأزمة المستفحلة، لتغطية الضياع الرسمي المتمادي في الإمساك بطرف خيط الحلول المطلوبة.

 

نشطت أوركسترا الحكم للتركيز على حاكم البنك المركزي رياض سلامة، لتحميله مسؤولية وقوع الدولة في الإفلاس المدقع، والتسبّب في انهيار الليرة بهذا الشكل المتسارع، والتغطية على موبقات الفساد والنهب والهدر الذي مارسته الطبقة السياسية، خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، واستلبت خلاله معظم مرافق الدولة ومواردها، وراكمت المديونية العامة حتى قاربت المئة مليار دولار.

 

قد يكون رياض سلامة أخطأ في بعض القرارات، وخاصة عندما استمر بتمويل الدولة، وتمكينها من دفع الرواتب وتغطية فضائح العجز المريب في الكهرباء، رغم أن كبار المسؤولين لم يستمعوا لتحذيراته المتكررة، بضرورة تنفيذ الإصلاحات المالية والإدارية الموعودة، والتي تعهد بها لبنان في مؤتمر سيدر، بغية الحد من تزايد العجز وارتفاع المديونية، وفتح الأبواب أمام المساعدات المليارية المخصصة للبنان. ولكن ذلك لا يُبرر تحميله وحده وزر إفلاس الدولة وانهيار الليرة، إلى حد المطالبة بإقالته في هذه الظروف الصعبة، وفي ظل الفراغ المتمادي في المناصب الحساسة للبنك المركزي، ولا سيما بنواب الحاكم ولجنة الرقابة على المصارف.

 

وبدا واضحاً أن اندلاع الاشتباكات السياسية في الأيام الأخيرة سرّع حركة هبوط الليرة إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ العملة الوطنية، وما زال يُهدّد بالمزيد من الانهيار الدراماتيكي، في حال لم تفلح الحكومة في التوصل إلى خطة إنقاذ اقتصادية عاجلاً، وعمد البنك المركزي إلى لجم المتلاعبين بلقمة عيش اللبنانيين، وإنزال العقوبات اللازمة بالصرّافين المخالفين.

 

ولكن يبدو أن عقلية الهيمنة والاستئثار ما زالت هي السائدة عند أهل الحكم، سواء في تعطيل عجلة الإصلاح، أم في السيطرة على القرارات الوطنية الكبرى، ولا سيما في قطاعي النفط والكهرباء، رغم أن نصف المديونية العامة تقريباً، هُدرت على الكهرباء، ولم تحقق العودة الموعودة للتيار على مدار الساعة، رغم أن وزراء التيار الوطني، وأولهم جبران باسيل، هم الذين قبضوا على هذا المرفق الحيوي منذ أكثر من عقد من الزمن!

 

وإلى أن يستعيد أهل الحكم توازنهم، ويدركون بأي مُنقلب ينقلبون، ستبقى الليرة في مهبّ الخلافات السياسية، وتخسر المزيد أمام العملة الخضراء!