كثُرت القوانين والاقتراحات في مجلسَي الوزراء والنواب، تحت عناوين «مكافحة الفساد»، لكن النتيجة واحدة: لا شيء جدّياً إلى الآن. ففيما ينتظِر بعضها الهيئة العامة في ساحة النجمة، اصطدمت التدابير الحكومية لمكافحة الفساد بمعارضة بعض أطراف الحكومة. فهل الهدف سحبها من التداول أم أن فيها ما هو مُخالِف للقانون فعلاً؟
تتسابَق السُلطتان التنفيذية والتشريعية، شعبوياً. كلتاهما تسارعان إلى سنّ اقتراحات ومشاريع قوانين وتدابير لمكافحة الفساد. لكن «كثرتها» تكاد «تحرق» الهدف. في الأسابيع الأخيرة، انطلقت ورشتا عمل نيابية ووزارية مُكثفتان تُحاكيان الشارع وغضبه، مُحاولتين إرضاء الجمهور بأي ثمن، عبر تأمين إطار قانوني لكل الإجراءات الواجِب اتخاذها، إلا أن آليات التنفيذ بقيت موضِع خِلاف.
فهذا النشاط «الاستثنائي» خلطَ الحابِل بالنابل، وخلقَ أزمة تداخُل صلاحيات، دفَعت بأطراف في الحكومة إلى العودة إلى هيئة التشريع والاستشارات، للوقوف على رأيها، وتحديداً في التدابير «الآنية والفورية» التي اقترحتها وزيرة العدل ماري كلود نجم لمكافحة الفساد و«استرداد الأموال المنهوبة»، بعد اعتبار عدد من الوزراء أن جزءاً من هذه التدابير «مُخالف للقوانين».
ثمّة مُشكلة حقيقية تكمُن في عدم مقاربة مجلِس النواب والحكومة للأزمة إلا من باب الشعبوية، حتى الآن. مَن يُسجّل قوانين أكثر. لكنهما، فعلياً، غير قادِرين على تقديم شيء جدّي. يعود ذلِك إلى سبب أن كل واحدة من الكتل النيابية تسعى إلى نسب إنجاز تشريعي لنفسها، بينما الحكومة البارعة في تأليف اللجان، يتفوّق ميلها إلى التصرف كأنها حكومة «الثورة» على كل شيء آخر، فأوقعها ذلِك في فخّ المزايدات.
هذا الأمر كادَ يُفجّر الحكومة الأسبوع الماضي، خلال مناقشة «التدابير الثمانية» لوزيرة العدل، قبلَ تأجيل النقاش في بعضها، خاصة في ما يتعلّق بتدبير الإثراء غير المشروع، إذ اعترض وزراء «حزب الله» و «حركة أمل» و«المردة» ووزيرا الداخلية محمد فهمي والتربية طارق المجذوب، على الآلية المقترحة للتحقيق في ملفات الفساد داخل المؤسسات؛ فالمعترضون يرون التدابير مخالفة للقوانين، وغير قابلة للتطبيق من دون تعديل قوانين في مجلس النواب. وبحسب بعض المعترضين، فإن التدابير تجعل الأمانة العامة لمجلس الوزراء «تؤدي دور القضاء وتحوّلها إلى ضابطة عدلية».
منذُ الجلسة الأخيرة لمجلِس الوزراء لم يتوقّف النقاش مع الحكومة في هذا الشأن. ومع أن الحكومة ورئيسها حسان دياب يُصرّان على تنفيذ التدابير وفقَ الآلية المطروحة، بذريعة «الحاجة إلى خطوات ترضي المنتفضين في الشارع وتعزّز الثقة بنا»، اصطدم هذا الإصرار بمعارضة أطراف مشاركين في الحكومة عقدت في الأيام الماضية اجتماعات في ما بينها، أدّت إلى سحب التدبيرين الرقم ٤ و٥، اللذين ينصّان على تطبيق المادتين ٤ و١٢ من قانون الإثراء غير المشروع. وذلِك لأنهما أعطيا بعض الجهات صلاحيات استثنائية «لا تُراعي القوانين المعمول بها»، إضافة إلى التدبير الرقم ٦ الذي ينصّ على تطبيق المادة ٥ من قانون السرية المصرفية.
فتحَ الخلاف باباً للاتهامات، بشأن إذا ما كان هناك نية لسحب هذه التدابير كلياً، بحجة أنها غير قانونية. غيرَ أن المصادر تؤكد أن المشكلة في أن «الحكومة تريد أن تقوم بما هو ليس من صلاحياتها». فأحد هذه التدابير، مثلاً، يطلُب مِن الأمانة العامة لمجلس الوزراء إعداد لائحة بأسماء الوزراء و النواب، بمن فيهم أولئك الذين انتهت ولايتهم لأي سبب كان خلال السنوات الخمس الأخيرة، و من ثمّ التحقّق من تقديم التصاريح التي أوجبتها المادة الرابعة من قانون الإثراء غير المشروع عند تولّي المهام الوزاريّة والنيابيّة. كما يطلُب من الوزارات والإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات، كافة، إعداد لائحة بأسماء الموظفين بخدمة عامة ضمن ملاكها، بمن فيهم أولئك الذين انتهت خدماتهم لأي سبب كان خلال السنوات الخمس الأخيرة، ومن ثمّ التحقّق من تقديم التصاريح التي أوجبتها المادة الرابعة من قانون الإثراء غير المشروع عند تولّي الوظيفة أو الخدمة العامّة وبعد الانتهاء منها، على أن ترسُل المعلومات كافة إلى الحكومة لإحالة المُخالفين على القضاء المُختصّ». فكيف تتحوّل الأمانة العامة إلى جهة مدّعية؟ وقد استغربت المصادر أنه حينَ جرى الاعتراض على إعطاء الأمانة العامة هذا الدور، ثمة في الحكومة من قال «فلتفعل الأمانة العامة لمجلس النواب ذلِك أيضاً»! وهذا إن دل على شيء، فعلى «جهل كبير بصلاحيات السلطات والهيئات ودوريهما، لا بل جهل بالقوانين كلها».
تريد الحكومة أن تتصرّف كأنها ضابطة عدلية
في هذا الإطار، علمت «الأخبار» أنه جرى سحب هذه التدابير وإرسالها إلى هيئة التشريع والاستشارات، التي «طلبت إجراء تعديلات سطحية لا تطال جوهر المشكلة»، لكن الغريب أن وزيرة العدل ترفُض حتى اللحظة إطلاع الحكومة على رأي الهيئة، بانتظار النقاش الذي سيحصل اليوم في جلسة مجلس الوزراء، إذ إن بحث البنود المتبقية مدُرج على جدول أعمالها. «الأخبار» حاولت أكثر من مرة التواصل مع نجم، للسؤال عن رأي الهيئة وإذا ما كانت نجم تتعمّد إخفاءه، لكنها لم تُجب.
مصادِر وزارية قالت «إننا ننتظر ما ستقوله الوزيرة في جلسة اليوم للبناء عليه»، علماً بأن هناك اقتراحات «بإقرار التدابير وفقَ التعديلات التي أدخلتها اللجنة النيابية الفرعية برئاسة النائب إبراهيم كنعان على القانون»، والتي نصّت على إيداع هذه التصاريح لدى الهيئة العامة لمكافحة الفساد. أما أن تؤلف الحكومة لجنة لجمع المعلومات ووضع تصنيفات وملفات وتلعب دور المدعي العام، وتخرج لتعلن النتائِج على العلن، فهذا أمر مخالف للقانون.
وكانت اللجنة الفرعية قد انتهت من مناقشة قانون الإثراء غير المشروع، واقترحت إدخال تعديلات عليه كي يصبح قابلاً للتنفيذ، ويحدّد الأموال، سواء كانت منهوبة أم مهرّبة أم غيرها، ومعه نموذج التصريح عن الذمة المالية في لبنان والخارج الواجب على أي موظف عمومي، بما فيها السلطات الدستورية والمناصب التشريعية والتنفيذية والإدارية والعسكرية والأمنية والمالية والاستشارية المدفوعة الأجر وغير المدفوعة الأجر». كما اقترحت اللجنة توسعة مهام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي أقرت في الجلسة التشريعية الأخيرة، والمرتبطة بهذا الاقتراح. وجرى التوافق على أن تكون التصاريح علنية أمام هيئة مكافحة الفساد، أي أن يقدم المظروف بطريقة مقفلة، بعد أن كانت هناك مطالبات بأن تكون العلانية بشكل كامل.
والانتهاء من هذا القانون في اللجنة الفرعية لا يعني أنه أصبَح نافذاً، فاللجنة الفرعية مهمتها التوصل إلى صيغة موحدة لعدة اقتراحات مقدمة من مختلف الكتل حول موضوع معين، ومن ثم ترسله إلى اللجان المشتركة لإقراره. صحيح أن النواب يؤمّنون الإطار التشريعي، لكن الاختبار الحقيقي هو في تأمين الإرادة السياسية التي تسمح لمثل هذه القوانين بأن تُصبِح نافذة، في الهيئة العامة، فهناك تُكرّم الكتل أو تُهان.