ألف سبب وسبب قد يدفع اللبنانيين إلى الشارع: الارتفاع القياسي في سعر الدولار، جنون أسعار المواد الغذائية، فساد الطبقة السياسية ووقاحتها، الفوضى المالية، البطالة، الأفق القاتم، المستقبل المجهول… كلها عوامل مفجّرة قد تنزع فتيل البركان الاجتماعي في أي لحظة. ولكن ما حصل خلال الساعات الأربع والعشرين الأخيرة، لم يكن بنظر موالين للحكومة، عفوياً. ولا ينمّ عن ردة فعل منتظرة من الرأي العام الناقم على كل ما ومن حوله ومستعد لهدم الهيكل فوق رؤوس الجميع. برأي هؤلاء، ثمة قطبة مخفية لا تزال مجهولة الأهداف والمرامي، وإن مؤشراتها جلية.
قال وزير الداخلية محمد فهمي أمس إنّ “ما حصل ليس بريئاً”، مشيراً بعد اجتماع مجلس الوزراء في بعبدا إلى انّ “هناك من يجيّش على وسائل التواصل والتحقيقات مستمرة”.
خلاصة مقتضبة لما يفكر به الجالسون على طاولة مجلس الوزراء، بعد ليلة طويلة تقطّعت خلالها أوصال الوطن بفعل الدواليب المحروقة وحناجر الغاضبين على تردي الأوضاع وسوداويتها، أن يكون هناك من “جيّش” لليلة الدواليب المحروقة، لا يحجب أبداً نار الجوع الملتهب تحت رماد الرأي العام. لدى اللبنانيين كل المبررات التي ترمي بهم في حضن الشارع، ولكن هذا لا يلغي أبداً وجود منتفعين، لا بل محرضين للطوفان الشعبي، لحسابات سياسية بحتة، كما يقول المؤيدون للحكومة.
يستعرض هؤلاء محطات سياسية توالت خلال الأيام الثلاثة الأخيرة، زادت من منسوب الشكوك لدى الجالسين على طاولة مجلس الوزراء الذي ما كاد يقرّ سلّة التعيينات المالية بشكل خاص، حتى انطلقت حملة منظمة جاءت حلقاتها على الشكل الآتي:
– تسريبات غبّ الطلب عن تطيير الحكومة، تارة من خلال الإشاعة عن نية رئيسها التقدم باستقالته، وطوراً من خلال انقلاب حلفائها عليها لتقديمها على طبق البركان الاجتماعي، في تكرار لمشهدية 17 تشرين الأول على أن تنتهي برضوخ الحكومة أمام مقصلة الشارع. الأهم من ذلك، هو أنّ هذا المناخ عن التضحية بالحكومة من جانب حلفائها السياسيين، لم يقرب أبداً من السراي الحكومي، ولم يأت من يسرّ في أذني رئيس الحكومة حسان دياب عن أي سيناريو من هذا النوع، وليس هو في وارد “الهروب” في هذه اللحظة التي لن تؤدي إلا الى المجهول.
– شنّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري هجومه السياسي ولم يوفّر رئيس الحكومة ولا نائبته زينه عكر من احداثيات تصويباته، في خطوة لم يفهم توقيتها إلا من زواية الخشية مما قد تقدم عليه الحكومة في الملف المالي، كما يقول المدافعون عن الحكومة.
– اختفاء الدولار يوم الخميس منذ الصباح الباكر من الأسواق وفق ما أبلغه الصرافون لمجلس الوزراء، في اجراء بدا غريباً لا سيما وأنّه خلال اليومين السابقين كان الدولار موضع شراء وبيع في سوق الصرافين الشرعيين بشكل طبيعي، حيث يتردد أنّ الصرافين وخلال يوم الأربعاء اشتروا من السوق كميات تقدر بالملايين وثم قاموا ببيعها. واذ بيوم الخميس تحلّ الشائعات بدلاً من الدولار.
– خروج الناس إلى الشارع مساء يوم الخميس على نحو مكثف. وهنا العين الأمينة راحت ترصد بعض المجموعات المنظمة والموجّهة عن بعد. فقد لوحظت على سبيل المثال مشاركة بعض المجموعات الحزبية التي كانت لفترة خلت، تنأى بنفسها عن الشارع، وإذ بها ليل الخميس تتقّدم صفوف المعترضين الأمامية.
على هذا الأساس، يقول المدافعون عن الحكومة إنّ ثمة أمر عمليات منسّقاً وممنهجاً جرى اتخاذه بالتزامن مع اقرار الحكومة سلّة التعيينات المالية، التي يعتقد المدافعون إنّها السبب وراء حملة منظمة بخلفيات سياسية. يعتقد هؤلاء أنّ إقرار التعيينات من شأنه أن ينزع الصلاحيات المطلقة التي كانت بين يدي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي صار له شركاء في حاكمية المصرف المركزي، ما قد يفتح الباب أمام احتمال “الاستغناء” عنه من دون وقوع مجهول الأضرار في عمل المصرف المركزي أو في الاستقرار النقدي، المضروب أصلاً!
ويشير هؤلاء إلى أنّ ما حصل بدا وكأنه محاولة لحماية سلامة خلال المرحلة المقبلة من جانب منظومة مالية تؤمن له التغطية السياسية، ولو أن بعض المواكبين للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي يجزمون، أنّ الصندوق عادة ما يفضل عدم القيام بخطوات من هذا القبيل خلال المفاوضات منعاً من تخريبها او تأخرها. ولهذا يسود الاعتقاد أن اقالة سلامة ليست أصلاً مطروحة خلال هذه المرحلة، ولكن هناك من يخشى من محاصرة قراره داخل المصرف المركزي، وكان لا بدّ من التصدي لهذه المحاولة عبر تكبير حجر الاعتراض الشعبي أو السعي لهزّ الاستقرار الحكومي.