“إستشارات” اليوم… بداية تراجع كبير لـ”الكبار“!
لغاية الأمس القريب، كانت الفكرة تشكيل حكومة تدغدغ المشاعر الاقتصادية، وتوحي بإمكانية توفّر حل قريب للأزمة النقدية، أما اليوم ومع توقّع إنطلاق الإستشارات النيابية، يبدو ان قطار المعالجات يبتعد أكثر فأكثر عن محطة الحل، التي راكم فيها الداخل اللبناني والمجتمع الدولي الأفكار العملية والمنطقية للخروج من عنق الزجاجة، طيلة الأيام الماضية.
الطريقة التي عادت تُدار بها الأمور تشي صراحة بأن وجود الحكومة “المعلّبة” سلفاً، والخاضعة لشروط وإملاءات الطبقة السياسية، ستزيد الأمور تعقيداً في حال أبصرت النور. والسبب لا يعود فقط الى نية “التيار الوطني الحر” وضع العصي في دواليبها الفارغة من الهواء، واستمرار الثنائي الشيعي المتمثّل بـ “حزب الله” و”حركة أمل”، رميها بالحجارة، مجازياً وحرفياً، إنما في فقدانها أحد أهم الشروط الدولية وهو “الثقة”.
لا ثقة دولية
في ظل دقة الأوضاع الإقتصادية والمالية، أو بالأحرى خطورتها، ما زالت الحسابات السياسية والتحاصصية هي الأولوية، على الرغم من تعفّن ما بقي من فتات قالب الجبنة.
هذا الأمر ظهر كلامياً في خطابَي الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، الذي أصرّ على حكومة سياسية جامعة، وفي معادلة رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير جبران باسيل الشهيرة مع سعد الحريري: “يا نعيش زي الفل يا نموت نحنا الكل”. والأخطر ان سياسة استمرار التقاسم على جثة البلد تجسّدت فعلياً في مناقصة البنزين التي أجرتها وزارة الطاقة الأسبوع الفائت والتي “أظهرت كيف تتكافل وتتضامن كل الطبقة السياسية في مواجهة الشعب ومصالحه”، يقول الباحث مكرم رباح.
رغم الأزمات التي تحولت إلى مآسٍ، ما زال “تركيب” الحكومة يخضع لمنطق وضع عربة التأليف قبل حصان الحل، في حين ان المطلوب اليوم “وضع خطة واضحة وصريحة للخروج من الأزمة، ومن ثم تشكيل حكومة على أساسها، وهو ما امتنعت السلطة عن القيام به”، يؤكد رباح. فتواطَأ أركان الحكم، وأدخلوا البلد في سوق المزايدات وحرق الأسماء، للوصول إلى فرض رئيس حكومة الأمر الواقع، الذي يملك برأيهم مفتاح الحل الخارجي، انما المشكلة بحسب رباح ان “هذه الاستراتيجية سقطت في اجتماع مجموعة الدعم الدولية في فرنسا. ولم تستطع هذه الطبقة القابضة على مقدرات البلد، والتي فشلت مئات المرات في تقديم الحل وانتشال البلد من مآزقه، نيل ثقة المجتمع الدولي”.
تكرار الأدوات يُفشل الحلّ
في الوقت الذي يُتوقع فيه ان يكون رئيس الجمهورية ميشال عون يلتقي بعض ممثلي الكتل النيابية في “حفلة” الإستشارات الملزمة اليوم، يُتوقع ان تتجه المصارف إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات التقشفية، التي تُعمق الأزمتين الإقتصادية والإجتماعية، وتُمعن في ضرب ما تبقّى من قدرات فردية عند المواطنين، وجماعية لدى قوى الانتاج.
“حفلة” الإستشارات المصطنعة، التي كانت كفيلة لو حدثت قبل 50 يوماً من الآن ان تضخ القليل من الأمل وترفع أسهم وسندات لبنان في الأسواق العالمية ببعض النقاط المئوية، ستأتي في هذا التوقيت سلبية. فـ”الأدوات التي تحاول السلطة استخدامها لم تعد مناسبة لحجم الأزمة ومطالب المواطنين، والوجوه التي تحاول زرعها لم تعد موثوقة، ومحاولتها العودة الى توازنات المعادلة العجيبة التي سبقت 17 تشرين الأول لم تعد موفقة”، يوضح مدير البحوث في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت ناصر ياسين.
ياسين يرى ان “بداية الحل لا تتوفر إلا بعودة الثقة، وعودة الثقة لن تكون إلا عبر أشخاص مستقلّين أصحاب كفاءة واختصاص، بعيدين عن التركيبة السياسية، آتين لحل المشكلة وليس بغرض الإستفادة الشخصية وتأمين استمرار منظومة المنفعة والتقاسم لهم ولجماعتهم”.
الفقر 52 %
بين المطلوب والموجود هوةٌ سحيقة، لن تستطيع هذه السلطة ردمها بالوعود الفارغة والآمال الكاذبة. فما يجب توفيره بأسرع وقت ممكن بحسب الخبراء وأهل الإختصاص، هو حكومة قادرة على تخفيف نتائج الأزمة، من خلال:
– العدل في توزيع الضرر على الفئات والطبقات الإجتماعية.
– عدم تحميل الطبقات الفقيرة عبء الإصلاح.
– حماية المكتسبات الإجتماعية للطبقات الفقيرة، من ضمان إجتماعي وتعليم واستشفاء مجاني.
– المحافظة على أموال صغار المودعين، وتأمينها لهم بسهولة ومن دون تعقيدات.
– نيل ثقة الداخل والخارج.
الأخطار المحدقة كبيرة ولعل التقديرات التي تشير إلى ان معدل الفقر سيتجاوز في المستقبل القريب الـ 52 في المئة، كفيلة بدق ناقوس الخطر وإنذار هذه الطبقة بسوء إدارتها وسيرها بالبلد إلى المجهول. “من هنا نحن ننادي بحكومة بوجوه جديدة، تكون قادرة على وضع برامج وسياسات للحماية الإجتماعية تستطيع تجنيب البلد المجاعة فعلياً”، يشرح ياسين.
“الحكومة المستقلّة، وليس تلك التي يجرى التحضير لها، هي المدخل الوحيد إلى الحل”، يضيف ياسين، لأننا في لبنان “نواجه وحيدين أزمة مثلثة الأضلع، وليس هناك من يقف خلفنا أو يدعمنا كما حدث في أزمة الرهن العقاري في أميركا، أو الأزمة المالية في اليونان، التي تخطتها بمساعدة المصرف المركزي الاوروبي. أملنا الوحيد هو في تدفقات مالية من الخارج تضخ في اماكنها الصحيحة، وهذه المساعدة لن تتوفر طالما تقبض هذه المنظومة الفاسدة على زمام الأمور”.
كلام ياسين يتقاطع مع رأي مكرم رباح الذي يشير إلى ان “الدواء معروف، إنما المريض لا يريد تجرعه ليشفى” ويشدّد على أنه “من الناحية الإقتصادية هناك خطوات واضحة وصريحة للخروج من الأزمة وضعها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وعلى المسؤولين الإلتزام بها وتطبيقها سريعاً”.
الخبير الإقتصادي لويس حبيقة يلفت إلى أنه “من المبكر الحديث عن نتائج الحكومة المقبلة، وأن الإستشارات النيابية المزمع عقدها غدا (اليوم) هي خطوة ممتازة، كان يجب ان تحصل قبل فترة طويلة”. وبرأي حبيقة “تشكّل الإستشارات الملزمة 20 في المئة من الحل، فيما يشكل تأليف الحكومة 30 في المئة، أما الـ 50 في المئة المتبقية، وهي الأصعب، فمنوطة بشكل الحكومة والأسماء والبيان الوزاري وخطة العمل”. ويرى أن “ميل الدفة لصالح سعد الحريري يشكل نقطة إيجابية كونه هو رئيس حكومة تصريف الأعمال والرئيس المكلف. وان عمله يجب ان يتركز على تهدئة الشارع وطمأنته لضمان نجاح المهمة الموكلة اليه”.
بعض الإيجابيات التي من الممكن ان تتحقق بتسمية الحريري، يناقضها منطق التعنّت في السير بحكومة الأمر الواقع. وهو “ما سيأخذ البلد إلى زيادة المواجهات بين الشعب والسلطة من جهة، وإلى مواجهات مفتوحة مع حزب الله من جهة ثانية. إذ انه كلما تعمّق السقوط الإقتصادي كلما أصبح “حزب الله” أشرس في موضوع محاولة الإستيلاء على لبنان”، يختم رباح.