السياسات الخاطئة التي تعاقبت منذ ثلاثين عاماً دفعت لبنان الى أسوأ أزمة في تاريخه، مع تراجع سعر الصرف بشكل عشوائي، وبروز خطر المجاعة الذي يهدّد أكثر من 50 بالمائة من الشعب اللبناني.
يبدو أنّ الحكومة لم تفقه بعد حجم الكارثة التي وقع فيها البلد، أو أنّها غير قادرة على مواجهتها. وفي جميع الأحوال، وبعد 100 يوم، وتعداد إنجازات وهمية بكل ما للكلمة من معنى، بات عليها حكماً أن تستقيل لأنّها غير قادرة، وعاجزة، وسياسية بإمتياز، وذات لون واحد، قد لا يكون اللون الذي يريده اللبنانيون جميعاً.
وإذا ما أختارت هذه الحكومة التوجّه شرقاً، فيجب أن نكون قادرين على الالتفاف على المجتمع الدولي والدول المانحة، والتأكّد من أنّ الشرق قادر على مساعدتنا أقله. ولهم أقول، إنّ الشرق غير قادرعلى القيام بأي عملية إنقاذية، وإنّ الدول المانحة ما زالت تنتظر من الدولة اللبنانية جملة أصلاحات ما زلنا نتهرّب منها وكأننا لا نتكلم اللغة نفسها أو أننا نعجز عن القيام بأي اصلاح. وفي الحالتين، وجب على الحكومة التنحّي طالما أنّ أنجازاتها هي موضوع أنشائي أو فيلم عربي طويل نهايته ستكون حتماً حزينة.
والاحتجاجات اليوم ليست سوى تعبير عن رفض واقع الحال الذي ضرب البلد، وجعلنا نطلب مساعدات خارجية. والأهم أنّ المؤسسات المانحة غير مقتنعة بجدّية المفاوض اللبناني، الذي ما زال يتحايل على الأمور ويحاول التنصّل منها، لاسيما في الكهرباء والمرافئ غير الشرعية وتخمة الموظفين في القطاع العام، وهي أمور بديهية ويجب تصحيحها في أقرب وقت ممكن.
في هذا السياق، واذا كانت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ما زالت قائمة، إلّا أنّ المسائل معقّدة للغاية وتتطلّب تشخيصاً لحجم الخسائر ومصدرها، فضلاً عن خيارات ملائمة لمعالجتها على نحو فعّال. وحجم الخسائر هذه كبيرة، وما زالت السلطات اللبنانية غير متفقة على أرقام موحّدة. وحسب الصندوق، لم يتوصلوا بعد الى مناقشة جدّية في إطار الدعم الممكن للبنان. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن جدّيون في التعاطي مع الصندوق، والى أي مدى يمكننا أن نُجري هذه الاصلاحات، لاسيما أنّ أموراً بديهية وجب البدء بها حتى قبل طلب المساعدة. وللذين لا يريدون مساعدة الصندوق عليهم أن يعرفوا أنّه الخيار الوحيد للحصول على دعم المجتمع الدولي والمؤسسات المانحة، ولن يكون لنا خيار آخر، خصوصاً إننا دخلنا في المجهول، ولا يمكن الاتكال على وزراء ومستشارين جاءت بهم الصدفة، بل وجب تشكيل خلية أزمة من إقتصاديين تتكلم اللغة نفسها مع الصندوق وليس شعراء بلاط يتكلمون لغة أسيادهم.
علماً أنّ خبرات الدول متفاوته. فإذا أخذنا اليونان على سبيل المثال، فإنّها عانت الكثير في السنوات الخمس الماضية، إلّا أنّ عملتها بقيت ثابتة، الأمر الذي جعلها تستوعب المرحلة الحرجة، محاولة الخروج من أزمتها المالية، وقد ساعد في ذلك صندوق النقد الدولي، مع التزام كامل من قِبل الحكومة اليونانية، ودعم قوي من الأتحاد الأوروبي. أما في بعض الدول الأخرى، فقد إختارت الدولرة، وعلى سبيل المثال الأكوادور، التي عانت ولفترات طويلة من عدم الاستقرار السياسي، نرى أنّها حافظت على معدلات منخفضة من التضخم وعملة مستقرة. وتُعتبر الدولرة من أفضل الأسلحة للدفاع عن الفقراء خصوصاً في ظلّ أزمات سياسية حادّة.
وعلى نقيض العديد من الدول، تشير البيانات الأحصائية الى أنّ النمو الاقتصادي كان بمعدل 4,7%، وهو من أعلى المعدلات في المنطقة، ويُعتبر الاستقرار النقدي درعاً واقية ضدّ الأزمات السياسية والاجتماعية. على سبيل المثال، في الأكوادور أُطيح برئيسي جمهورية، وفي تشرين الأول من العام الماضي كانت هناك تظاهرات عنيفة لم تؤد الى انخفاض سعر صرف العملة، بينما تأثرت والى حدٍ بعيد العملات في تشيلي وبوليفيا.
لذلك، قد تكون الدولرة من اهم فوائدها الاستقرار والحدّ من الفقر، عبر الاستقرار النقدي الذي يُخرجنا من دوامة الغموض والتكهن، ويساعد الدولة في اجتذاب الأموال والاستثمارات الأجنبية.
يبقى الحل الأكثر واقعية في لبنان إجراء اصلاحات جذرية في النظام المالي والمصرفي وفي الادارة، للتخفيف من الهدر ومحاسبة كل من يتبيّن انّه شارك في عملية نهب الدولة، من أكبر مسؤول الى أصغرهم، واستعادة الأموال المنهوبة. ولا بدّ من التركيز على حماية المودع. ومن دون ذلك، سيتمّ القضاء على ما تبقّى من النظام المصرفي.
يبقى القول، إنّ الأمور مترابطة ببعضها البعض، والأكيد أننا نمضي نحو الهاوية، والمسؤولون ومستشاروهم في حالة غيبوبة كاملة تستدعي انتفاضة من أجل تحسين المسار.
لبنان على مفترق طرق، ويبدو انّ المسؤولين ومن خلفهم، يريدون التوجّه شرقاً، والشرق غير واضحة معالمه وجدّيته في إعانة لبنان، وخبراتنا السابقة في الدعم جاءت على يد أوروبا. لذلك قد يكون تغيير المسار عملية غير مجدّية وقد لا تؤدِ الى نتيجة تُذكر.
بالمختصر، وضعيتنا غير مريحة، ونسبة التضخم تزداد بشكل سريع، والعملة الوطنية دخلت في المجهول، والبترول والغاز امران غير أكيدين، واللاجئون الفلسطينيون والسوريون يزيدون من الضغط على الاقتصاد. لذلك، قد نكون اليوم بلا خيارات، وقد يكون إقناع صندوق النقد عملية صعبة للغاية، في ظل غياب ارادة واضحة لإخراج البلاد من عنق الزجاجة.
خيارنا يتيم، ويقتصر على صندوق النقد دون سواه.