ما هي الأسباب الحقيقيّة والفعليّة التي تقف خلف تخلّف الدول والأوطان؟ وما هي المُبرّرات التي يُمكن سَوقها في إطار تقييم تفاوت العدالة والمساواة ومعدّلات النمو الاقتصادي بين الشرق والغرب، أو بين الشمال أو الجنوب؟ هل هي حضارة الدول وثقافتها، أم الجغرافيا السياسيّة، أم المناخ مثلاً؟
لقد أظهرت الدراسات أنّ هذه العناصر قد تكون مؤثّرة في مكانٍ ما، ولكنّ تأثيراتها محدودة على واقع تلك البلدان. إلا أنّ العامل الحاسم يتّصل بالعمليّة السياسيّة، بالمؤسسات الدستوريّة وثقافة تطبيق الدستور، بآليات المحاسبة والمراقبة، بتنفيذ القوانين والإبتعاد عن إجتراح الأعراف الخارجة عن الأصول في سبيل تعزيز المصالح الفئوية الخاصة.
ما الذي يفسّر مثلاً التفاوت الهائل بين الكوريتين؟ لقد كانت كوريا دولة واحدة قبيل انتهاء الحرب العالميّة الثانية، إلا أنّها وقعت ضحية الحرب الباردة التي تحوّلت حرباً ساخنة سنة 1950، فقسّمت الجزيرة إلى قسمين. ومع مرور الزمن، صارت كوريا الجنوبيّة التي اعتمدت النظام الديموقراطي واحترام المؤسسات تتمتّع باقتصاد قوي سرعان ما تحوّلت من خلاله إلى واحدة من القوى الآسيويّة الأكثر تأثيراً؛ بينما لا تزال كوريا الشماليّة تعاني من أبسط المشاكل، مثل إنقطاع الكهرباء وغياب الحقوق الأساسيّة لدى المواطنين كالحرية والعيش الكريم.
الهدف من الإستعانة بالمثل الكوري هو للدلالة على أهميّة تطبيق أنظمة المحاسبة والمساءلة والشفافيّة، على أهمّية إحترام فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، على أهمّية تطبيق الدستور والقوانين، بعيداً من الحسابات المصلحية والفئوية الخاصة التي غالباً ما تتناقض مع المصلحة الوطنيّة العليا.
لقد يئس اللبنانيون من مُحترفي خطف الوطن واستلحاقه بالمحاور التي تتناقض تاريخياً مع دوره وموقعه ورسالته، وثقافته القائمة على التعدديّة والتنوّع وإحترام الحريات العامة ورفض المسّ بها!
لقد يئس اللبنانيون من التهديد والوعيد والرسائل المبطّنة والأصابع المرفوعة التي يستخدمها من يملك فائض القوّة ومن يتلطّى خلفه ويستعير قوّته! فإذا كان مفهوماً (وليس مُبرّراً) أن يحذّر من يملك القوّة الزائدة من استخدام قوّته (بالرغم من فشل التجربة في المحطّات التاريخية السابقة واستحالة أن يُلغي أحد أحداً في لبنان)؛ ولكن من غير المفهوم كيف يُمكن لمن يدّعي الحرص على الدولة استخدام الأسلوب ذاته وبقوّة سواه، وليس بقوته الذاتيّة!
كيف يُمكن لمن يحتلّ منصب رئاسة الجمهوريّة ويترأس أكبر كتلة نيابية في المجلس النيابي، ويتدافع مع الآخرين لنيل المقاعد الوزاريّة التي يلهث في سبيلها (وفشل في النجاح في أي منها على مدى سنوات) أن يخرج ليقول: “لا تجرّبونا”ّ!
المشكلة أنّ اللبنانيين جرّبوكم في الحرب والسلم، في الحروب العبثيّة المتتالية، وفي الخطابات الخاوية في السلم. جرّبوكم في رفع الشعارات الواهية والفارغة، التي لا ترمي سوى إلى أن تروي عطشكم المُزمن والمريض للسلطة!
المشكلة أنّ نظام المحاسبة والمساءلة معطّل. توقِفون التشكيلات القضائيّة لزرع أزلامكم في المراكز الحسّاسة، نعم، أزلامكم من القضاة المُرتهنين. تُفرِغون الهيئات الرقابيّة من دورها لإسقاط أي جهد إصلاحي جدّي. هل تذكرون التفتيش المركزي وديوان المحاسبة وهيئة التفتيش القضائي، وسواها من المؤسسات التي يُمنع عليها القيام بدورها ووظيفتها؟