الفرنسيون الذين حصلوا على فرصة في لحظة خاصة للمبادرة في لبنان، وجدوا أن تجاوز الازمة الحالية يتطلب مرحلة انتقالية تتألف فيها حكومة تحظى بثقة مقبولة من غالبية الناس. هم تصرفوا كما قالوا، وفقاً للوقائع اللبنانية القائمة، وخلاصتها، أن القوى السياسية البارزة تملك حيثية شعبية كبيرة تتيح لها التحكم في القرار السياسي، وأن الذين يحتجون على السلطة هم إما جزء من هذه القوى السياسية، أو من الجمهور الذي لم ينجح في تظهير بديل جدي قادر على خوض انتخابات نيابية تغير المشهد. ولذلك، قرر الفرنسيون أنه استناداً الى الوقائع اللبنانية، والى الظروف الاقليمية والدولية، فإن الحل المؤقت يكون من خلال حكومة تحظى بتوافق غالبية القوى البارزة، وتشارك فيها وجوه من الممكن أن تحصل على ثقة جزء من الشارع المنتفض.
الفرنسيون، ووفق حساباتهم هذه، طالبوا بإعادة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة. أصلاً، هو مطلب أبرز القوى السياسية المحلية. فجاءت اعتبارات خارجية وداخلية لتمنع ذلك. لكن الرغبة الفرنسية في الحصول على مشاركة الحريري المباشرة، تُرجمت في منحه حق ترشيح أسماء لتولي تأليف الحكومة، وأعطي الآخرون حق الفيتو. وهذا ما حصل. بل، إن الكل يعرف، أن الفرنسيين، ومعهم الحريري، وآخرين من اللاعبين الداخليين، استغلوا لحظة الاضطراب السياسي الكبير بعد انفجار المرفأ، وعملوا على تمرير اسم مصطفى أديب.
وفقاً للمبدأ الفرنسي الذي وافق عليه الجميع، بما في ذلك المطرودون من جنة الحكم، فإن تسمية الرئيس المكلف تطلبت توافق الغالبية، وبالتالي، هم يفترضون أن هذا التوافق ينسحب على تأليف الحكومة، وهو ما لم يحصل. قسم من الادارة الفرنسية – استناداً الى توصيات أميركية – جعل الحريري يتصرف على أساس أنه هو من يؤلف الحكومة. وعندما رُفع شعار الاختصاصيين المستقلين، تصرّف الحريري ومعه أعضاء نقابة رؤساء الحكومة السابقين، على أنهم هم القادرون على اختيار الاختصاصيين المستقلين. فجأة، صار هؤلاء هم أصحاب الخبرة حصراً في تحديد من هو مستقل، ومن هو اختصاصي. وقرروا اختيار جميع الوزراء، وما على الآخرين سوى التوقيع… كان هذا أول خرق لمبدأ التوافق الذي حكم مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد في «الخفة» الفرنسية، إذ بات معلوماً، وإن لم يكن معلناً، أن الفرنسيين تحدثوا بصورة رسمية وغير رسمية مع عدد من الاقطاب اللبنانيين حول المشاكل الطارئة. وهم كرروا شعار بدء الاصلاح ومحاربة الفساد أكثر من مرة. وعندما طُلب منهم التوضيح قالوا صراحة إن في لبنان من الاقطاب من يجب أن يكون خارج إطار الحكم حتى تقدر أي حكومة على محاربة الفساد. وفي لحظة الإلحاح، والإتيان على سيرة العقوبات، كشف الفرنسيون أنهم يقصدون من داخل قوى السلطة، الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري والنائب جبران باسيل، وأضافوا اليهم من خارج النادي النائب السابق وليد جنبلاط وقيادات لبنانية أخرى، وحشد من رجال المال والاعمال. وخلال الايام الاولى لمفاوضات تأليف الحكومة، بعث الفرنسيون برسائل مباشرة الى الرئيس ميشال عون، والى آخرين، تفيد بأنهم سيفرضون عقوبات مباشرة وواضحة بالتعاون أو من دون التعاون مع الاميركيين، وأدرجوا أسماء من بين هذه القيادات أو العاملين معها. واعتبروا أن الأمر قد يكون خطوة إلزامية في حال لم يتم تسهيل عملية تأليف الحكومة.
الواضح أن تعامل القوى المحلية مع سلاح العقوبات لم يكن على المستوى نفسه. حزب الله قال بالتمييز بين العقوبات بتهمة الفساد والعقوبات بتهمة دعم المقاومة. هو لن يقف في وجه عقوبات على فاسدين في حال ثبتت الاتهامات، بينما سيعارض بقوة أي عقوبات استنسابية أو لها خلفية وبُعد سياسيان. الرئيس بري ردّ بغضب وعنف على التهديد، خصوصاً بعدما باشر الاميركيون التنفيذ من خلال فرض عقوبات على معاونه الأبرز الوزير السابق علي حسن خليل، بينما مارس الحريري الصمت، مستدلاً من اتصالات جانبية على أنه ليس هدفاً الآن، فيما ظهرت نتائج الضغوط على الرئيس عون والنائب باسيل ومحطيهما. وهو ما ترجمه الجميع ردود فعل على آلية تأليف الحكومة؛ فظهر تشدد الرئيس بري، وظهرت مرونة غير مفهومة من جانب عون وباسيل، بينما تصرف الحريري على أساس أن الجميع لن يقاوم الضغوط وستتألف الحكومة وفق ما يراه هو، بل مارس الضغط على الرئيس المكلف كي لا يتراجع عن الشروط الاولية.
فرنسا هدّدت بالاسم بري والحريري وباسيل بالعقوبات على أساس ملفات فساد بحوزتها، لكنها تحثهم على التفاهم وعلى تأليف حكومة إنقاذ لمحاربة الفساد
عملياً، ما يحصل أن فرنسا هدّدت الأقطاب البارزين بالعقوبات بحجة أنهم تسبِّبوا في الخراب نتيجة تورطهم في ملفات الفساد. لكن فرنسا نفسها، تطلب من هؤلاء أنفسهم، التوافق في ما بينهم، وأن يتنازل بعضهم للآخر، ويعملوا على تأليف حكومة مهمتها مكافحة الفساد وفتح باب الاصلاح. وعندما تبحث فرنسا عن الدعم، تطلب دعم لاعبين محليين وخارجيين، لتأليف حكومة مطلوب منها مواجهة الفساد وبدء الاصلاح.
انتهت مهلة الاسبوعين، ولم يقدر الفرنسيون على تغطية قرار أحادي بتأليف الحكومة من دون موافقة حزب الله وحركة أمل. لم يطلق العونيون النار، ولكنهم حذروا من خطورة تأليف حكومة لا يوافق عليها الثنائي الشيعي. جنبلاط ظل يطلب الحياد والرقص على الجانبين، فيقول كلاماً عاماً خلاصته واحدة: أخرجوني من دائرة النار هذه. الحريري استمر في التصرف على أساس أنه قادر على المواجهة الشاملة. أما الآخرون، فوقفوا على التل منتظرين، بغضب أو من دونه، كما هي حال «القوات اللبنانية» وحزب الكتائب وبقية قوى 14 آذار، فيما تعرضت مجموعات الانتفاضة الشعبية لضربة جديدة، عندما تقرر عدم احتسابها في كل هذه الاتصالات، علماً بأن الغرب وعد بعض تلك المجموعات بحفظ حصته من حصته المفترضة في أي حكومة جديدة.
شهدنا أسبوعين من الصراعات على التأليف وتوزيع الحقائب والتسمية، لكن النتيجة الوحيدة اليوم، هي استمرار التعطيل. صحيح ان تأليف الحكومة ليس أمراً مستحيلاً، لكنه لن يحصل وفق القواعد المتبعة الآن. وعندما يقول الفرنسيون إنهم سيتوقفون عن التواصل وترك القوى السياسية تقرر، فهذا يعني أنهم يبتزّون ويهدّدون، وهو جوهر الموقف الاميركي. لكن المشكلة، أن القوى المحلية تتسابق الى توزيع الاتهامات، ويرقص الجمهور طرباً أو غضباً مع هذا أو ذاك من المتصارعين، بينما يرفض أحد البحث عن مرجعية تحدد المسؤوليات.
في هذه الأثناء، ينشط «المدنيون» في أطر هجينة، شعارها الوحيد، يقول: نحن الدولة!