يغرق أركان السلطة في التناقضات من دون أن يأبهوا لغياب أي صدقية في مواقفهم أو لاتساقها مع أبسط المبادئ الدستورية. يسقط بعض هؤلاء في الحفرة التي أمعنوا في حفرها لخصومهم فيقولون شيئاً في الصباح ونقيضه في المساء.
من أبرز مظاهر التناقض حديث الميثاقية الذي يملأ المشهد السياسي ويردده البعض بطريقة ببغائية محزنة، في وقت يراد من ورائه مناورات سياسية خبيثة، تختبئ وراء الحديث عن الحقوق الطائفية.
نشأ حديث الميثاقية تاريخياً من صيغة 1943 ومن فكرة التوافق الاسلامي – المسيحي على تكريس فكرة لبنان الكبير واستقلاله، في نظام تتقاسم فيه الطوائف السلطة عرفاً عبر توزيع الرئاسات الثلاث على الطوائف الكبرى. لم يكن لـ”الميثاقية” كتعبير، وكواحدة من المفردات التي رافقت التحولات في المشهد اللبناني، حضور بالقدر الذي حصل في السنوات الماضية، وتحديداً منذ العام 2005.
حضرت “الميثاقية” في ذلك الحين لتخدم هدفاً سياسياً محدداً حين أراد النظام السوري العام 2006 في سياق رده على إخراجه من لبنان من أجل تقويض الحكومة المشكلة في حينها برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة من أكثرية قوى “14 آذار” ومن أجل إفشال سعيها لقيام المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كان طلب النظام السوري من حلفائه في حينها إسقاط الحكومة مهما كان الثمن من أجل تجريدها من الشرعية في مطلبها من مجلس الأمن انشاء المحكمة. على رغم أن حلفاء دمشق في حينها لم يكن لديهم عدد الوزراء الكافي لإسقاط الحكومة، جرى ترتيب الحجة في كواليس القصر الرئاسي السوري، بأن يتم الاستناد إلى مقدمة الدستور والفقرة (ي) منها التي تنص على أن لا شرعية لسلطة تناقض العيش المشترك بين المكونات اللبنانية الطائفية. الخطة قضت بأن يستقيل الوزراء الشيعة الستة كي يتم الاستناد إلى الحجة الآنفة. رفضت أكثرية الوسط السياسي الأخذ بهذه الحجة لسبب بسيط: المقصود بلا شرعية السلطة التي تناقض العيش المشترك هو إذا كان تشكيل الحكومة حصل مع استبعاد تمثيل طائفة ما عن سابق تصميم، وليس إذا استقال الوزراء الذين ينتمون إلى تلك الطائفة، الذين يمكن استبدالهم بغيرهم من الطائفة ذاتها بحيث لا يتم تجاهل تمثيلها. والواقع أن السنيورة في حينها تصرف وفق ما يحفظ مبدأ تمثيل الطائفة الشيعية في الحكومة، عندما رفض قبول استقالة الوزراء الشيعة وناشدهم العودة إلى مجلس الوزراء، ورفض تعيين بدائل عنهم، معتبراً ان عضويتهم ما زالت قائمة. أبقى بذلك على شرعية الحكومة، التي أقر رئيس البرلمان نبيه بري بشرعيتها بدوره، لكنه اضطر للقول (أثناء زيارة إلى طهران) إنها شرعية لكنها غير ميثاقية.
لم تنجح خطة إقالة الحكومة في حينها بحجة “الميثاقية”، إلا باحتلال بيروت، تحت مسمى اعتصام أحزاب قوى 8 آذار و”التيار الحر”، ثم باجتياحها وجزء من الجبل عسكرياً، من قبل “حزب الله”. قضت “الميثاقية” وفقاً لمفهوم النظام السوري، باستخدام السلاح. ومنذ حينها جرى استخدام الميثاقية لتحقيق غايات سياسية إقليمية، تحت غطاء أهداف محلية. باسمها أسقطت حكومة الرئيس سعد الحريري العام 2011 لقلب ميزان القوى الذي أعقب إنهاء الهيمنة السورية، ثم جرى تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية العام 2008، ثم تأخير تأليف الحكومات في عهد الرئيس ميشال سليمان لتعزيز النفوذ الإيراني في السلطة، وصولاً إلى تعطيل الرئاسة مجدداً لسنتين و5 أشهر لضمان انتخاب الرئيس ميشال عون بدعم من “حزب الله” بذريعة تولي الرئاسة من قبل “الأقوى في طائفته”. وباسم الميثاقية وضعت اليد على مؤسسات في الإدارة من قبل تحالف الأقليات، تحت شعار استعادة حقوق المسيحيين. ضاق بري ذرعاً من استغلال “التيار الحر” الشعار فقال: “أنا من اخترع الميثاقية”.
المشكلة أن قوى “14 آذار” انزلقت إلى اللعبة الجهنمية التي اسمها “الميثاقية” واكتشفت متأخرة أن مرتكزها لا علاقة له بالداخل، بل بميزان القوى الإقليمي وباستخدام القوة. فالميثاقية ساقطة منذ اختراعها. وبالتالي إسقاطها بإبعاد الأقوى في الطائفة السنية عن رئاسة الحكومة ليس مفاجئاً.