IMLebanon

حكومة الاختصاصيين… دوران في حلقة مفرغة

 

لا ينقطع السياسيون بغالبيتهم عن المطالبة بحكومة مستقلة أو حكومة من الاختصاصيين وتصويرها على أنها الحل الوحيد للخروج من المأزق. طُرحت هذه التسمية مع بداية الحراك في الشارع قبل عام من اليوم. اختلطت القضايا المطلبية مع مكافحة الفساد وتسليم سلاح “حزب الله”. كان المقصود بحكومة اختصاصيين التخلص من تمثيل “حزب الله” وغالبية الأحزاب في الحكومة. تبنى الرئيس سعد الحريري بعد استقالته يومذاك مطلب “الثوار” ومن بعده انطلقت رحلة تعدد التسميات الحكومية مع كل رئيس مكلف، “تكنوسياسية وحدة وطنية” و”مستقلة”، الى ان حضر الفرنسيون بإقتراح “حكومة المهمة” التي لم يفهم حتى الساعة المقصود منها ومن تمثل. \

 

ومع تكليفه مجدداً تبنى الحريري حكومة الاختصاصيين وبدأ “التنقيب” عن أسماء اختصاصيين غير محازبين لحكومته. يرفض مسؤول حزبي أمضى ما يزيد على الخمسين عاماً في عمله الحزبي التعاطي مع الحزبيين على أنهم نكرة أو فاشلون: “ومن قال ان الاختصاصيين سيكونون من اصحاب الكفاءة اكثر من الحزبيين وهل تخلو الاحزاب من الكفاءات؟”. صارح رئيس حزبه باعتراضه على آلية التعاطي فأثنى على كلامه وسلّم بصحته ولم يكن له حول ولا قوة في الاعتراض كي لا يظهر بمظهر المعطل لتشكيل الحكومة. لا تجد “حكومة الاختصاصيين” مؤيدين لها في كواليس المحازبين ممن يعترضون على طريقة التهكم على الاحزاب وتماهي رؤساء الكتل والاحزاب مع هذا الأمر رغم كونه ادانة لمسيرتهم الحزبية الطويلة. لا يهتم “حزب الله” لتسمية الحكومة المقبلة سواء كانت اختصاصيين او تكنوسياسية او سياسية، صيغ سيجد لها مخرجاً، الاهم في نهاية الامر أن يكون ممثلاً.

 

 

 

ولا يشكل “حزب الله” استثناء هنا، فكل الاحزاب تسعى إلى التمثل في الحكومة ولو بالتحايل على التسميات. من الناحية الدستورية يبدو الطرح مخالفاً لما ورد من مواد وبنود في الدستور تحث على تشكيل الحكومة وأولها المادة 17 التي تقول ان السلطة الاجرائية تناط بمجلس الوزراء مجتمعاً، وبهذا المعنى ان الوزراء ليسوا موظفين لدى رئيس الحكومة ولا هو مطلق الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية، وما ورد في سياق المادة 95 “تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة”. ودرجت العادة في لبنان ان الطوائف تمثلها احزاب في مجلس النواب يجب ان تتمثل في مجلس الوزراء. وتشكيل الحكومة بالطريقة المعتمدة تشوبه التناقضات في الاداء كما المضمون.

 

 

 

يكلف رئيس حكومة يرأس تياراً سياسياً وكان شريكاً في الحكم على امتداد سنوات طويلة، وينطلق في رحلة تشكيل حكومته من غير المحازبين بالتعاون مع رئيس الجمهورية الذي كان رئيساً لتيار سياسي يملك اكبر تكتل نيابي. هو ذاته سمّته كتل نيابية مؤلفة من أحزاب ممثلة في البرلمان. المطلوب ان يقفز الرئيس المكلف فوق تمثيل الكتل النيابية الى حكومة اختصاصيين تختارهم الاحزاب ذاتها الممنوع عليها التمثل مباشرة بمحازبين. فضلاً عن ذلك هل يمكن ادراج الاسماء الاربعة التي اقترحها الموفد الفرنسي أخيراً لأربع وزارات ضمن فئة المستقلين او الاختصاص؟

 

في مجتمع كل من فيه مسيس حتى مجتمعه المدني، تمثل المطالبة بحكومة مستقلة من غير المحازبين ضرباً من المستحيل طالما أن الحكومة من رئيسها الى الاطراف التي تشكلها تمثل احزاباً. ربما هي تجربة الاحزاب في الحكومات المتعاقبة التي لم تكن ناجحة بمعظمها، للاصرار على تكرار الوجوه ذاتها في اكثر من حكومة مع ما يشوب عملهم من انتهاكات، واقصاء عنصر الشباب من المحازبين، ولكن ثمة نظرة دونية في التعاطي مع التمثيل الحزبي بالثقافة الحزبية عموماً ومفهومها في لبنان. فالتجربة الحزبية لسعد الحريري لا تشبه تجربة الآخرين. من المآخذ على الحريري انه لم ينمّ الحالة الحزبية لـ”تيار المستقبل” والتي كان أسّسَ لها الرئيس رفيق الحريري بل تجاوزها الى تكوين ما درج على تسميته نادي رؤساء الحكومات، أي العودة الى الاقطاعية السياسية وليس الحزبية. لم يستفد الحريري من شعبية تياره السياسي ويفعّل تجربته، وهذه على صلة بوجود أزمة لدى السنّة عموماً ممن انتفت تجربتهم الحزبية بعد ان انكفأت الاحزاب القومية التي كانوا ينتمون اليها، وصار البديل عنها رجال مال واعمال ومقاولون ما تسبب بخلل داخل الحياة السياسية. الغريب ان الاحزاب رضخت للتسمية بكل ما تحمله من ادانة لتاريخها، وهذه اما انها تسلم بفشل تجربتها الحكومية او لعدم تحمل تبعات تفشيل الحكومة.

 

 

 

قيّد الحريري نفسه بالتغاضي عن التشاور مع الاحزاب وانطلق من نقطة اللامنطق في تشكيل الحكومات وهذا مرده الى تخبط وتراكم ضغوطات. ظن الرجل ان الفرنسيين يمكن ان يضغطوا على رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي ستخضعه العقوبات الاميركية، فلا حصلت هذه ولا تلك وتراكمت الضغوطات عليه فجمّد جهوده عند نقطة الصفر، لا هو قادر على التراجع ولا التقدم. عبارة لافتة قالها مستشار رئيس “التيار الوطني” انطوان قسطنطين بعد استقالة الحريري قبل عام: “ما فيك تكون عم تشكل حكومة في لبنان وتفكر بالنظام في بريطانيا”. الواقعية اذاً هي المطلوبة الا اذا كان المقصود التلطي خلف التسميات لاختراع الحجج فيما العلة في مكان آخر.