يحلو لكثير من المراقبين المقارنة بين القمّة الأميركية ـ الروسية التي ستُعقد في هلسنكي في 16 تموز الجاري وبين القمم الأميركية ـ السوفياتية التي كانت تحصل في حقبة «الحرب الباردة».
وقد يكون ثمّة مبالغة في تلك المقارنة إذ إنّ العالم يومها كان منقسماً الى شطرين، وكان الاتّحاد السوفياتي قوة عسكرية هائلة موازية للولايات المتحدة الأميركية، وكانت شؤون العالم من اقصاه الى اقصاه توضع على طاولة البحث والتفاوض تحت عنوان تنظيم شؤون الكرة الأرضية.
لكنّ هذه المقارنة قد تصحّ فقط في الشرق الاوسط، حيث لروسيا حضور عسكري مباشر وفاعل للمرة الاولى في تاريخها على الساحة السورية، والأهم أنّ موسكو تُمسك بأنامل بارعة بكثير وكثير من المفاصل المهمّة للنزاعات المتعدّدة الدائرة في الشرق الأوسط.
فالحضورُ الروسي القوي والذي ملأ الفراغ الذي أحدثه الانسحابُ الأميركي الناعم من ساحات الشرق الأوسط أعطى موسكو الكلمة الأولى والتأثير الأقوى لأيِّ ترتيبٍ جديد أو تسوياتٍ مطروحة لهذه البقعة من العالم.
ووفق التسريبات فإنّ برنامج عمل هذه القمّة يتوزّع على بنود عدة أهمها على الاطلاق:
1 – العلاقات الثنائية بين البلدَين.
2 – سوريا والمشاريع المطروحة لإنهاء الحرب وترتيب المرحلة المقبلة.
3 – ايران ونفوذها ضمن الخريطة الجيوسياسية الجديدة الجاري رسمُها.
كذلك تتوقع الاوساط الديبلوماسية أن يطرح الرئيس الاميركي مشروعه والمعروف بـ»صفقة العصر» طالباً مساعدة روسيا.
وتأسيساً على نفوذها الواسع في الشرق الاوسط تحاول موسكو توسيع باب المقايضات ليكون بمثابة تبادل خدمات بين الشرق الاوسط ومناطق أُخرى مثل القرم، وهي المنطقة التي تهمّ روسيا جداً وتعتبرها بمثابة حديقتها الخلفية كونها تدخل ضمن نطاق المصالح الحيوية الامنية المباشرة لها.
ومن هنا يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ترتيب ما يشبه إطاراً دائماً للتشاور والتفاهم بين البلدَين لإبقاء مبدأ «التبادل الخدماتي» قائماً ودائماً.
ووفق المعلومات فإنّ «المفارزَ السبّاقة» أو المجموعات المتخصّصة من البلدَين باشرت لقاءاتِها المكثّفة لإنجاز التفاهمات مسبقاً حول كافة البنود المطروحة، وذلك بهدف تأمين نجاح القمّة عبر تجنّب أيّ بنود مفاجئة قد تطيح التوافق المطلوب.
ومن الطبيعي والمنطقي أن يكون بند العلاقات الثنائية هو البند الأول، ذلك أنّ ترامب كان وما يزال يرزح تحت عبء ما بات يُعرف بـ»الاتّصال» مع روسيا خلال الحملات الإنتخابية.
واشتكت الديبلوماسية الروسية أخيراً من تلاشي كل أفكار ترامب وشعاراته التي رفعها خلال الانتخابات، وأنه أصبح واحداً من المدرسة السياسية الاميركية التقليدية وأسير الكونغرس والثقافة السياسية الأميركية المعادية تقليدياً لروسيا ومصالحها.
واعتبر رجال الديبلوماسية الروسية أنّ الجمهوريّين يعملون على إحاطة ترامب واحتضانه كلياً وتثقيفه سياسياً بحيث اصبح مختلفاً عن السابق. وأنه في ظلّ موازنة عسكرية أميركية هي الأكبر والتي أصبحت زهاءَ 700 مليار دولار اميركي فلا بدّ لروسيا وللعالم من أن يقلقا.
لكنّ ترامب أراد التمهيد بعناية بالغة لقمّته مع بوتين، فهو من جهة أرسل فريقه للتفاهم المسبق مع فريق بوتين على كافة النقاط بحيث لا يفاجئ بوتين بأيّ مسائل تثير حساسيّته، وفي المقابل اختار وزير خارجيته بومبيو ليمهّد لقمّته وهو المشهور بتشدّده، لا بل بعدائه لروسيا، اضافة الى تصريحات ممهِّدة لمستشاره للأمن القومي جون بولتون والذي لا يقلّ تشدّداً في الملف الروسي، وذلك بهدف التحرّر من العبء الداخلي الذي ما يزال يلاحقه من خلال ملفّ التحقيقات المفتوح.
ويدخل في الإطار عينه موقف واشنطن الرافض ضمّ شبه جزيرة القرم، لكنّ هذا التصريح صدر عن نائب المتحدث باسم البيت الابيض، ما يعني أنّ ترامب أراد توجيهَ الموقف للداخل الاميركي، ولكنه حرص على أن يكون صادراً عن مسؤول من درجة متدنّية.
يبقى أنّ ما يهمّنا تلك البنود المتعلقة بسوريا وايران و«صفقة العصر».
منذ فترة بدأت ترتيباتٌ أساسية خصوصاً في جنوب سوريا، حيث يشرف عليها بكافة تفاصيلها ضباط روس على مستوى عال، ويتابعها الطيرانُ الروسي بالتنسيق مع الجيشين الأميركي والإسرائيلي. وكان لافتاً تولّي الضباط الروس التفاوض مع المجموعات المسلّحة ووجهاء العشائر والبلدات.
الواضح أنّ القمّة الاميركية ـ الروسية ستضع الترتيبات الكاملة لمرحلة ما بعد الحرب في سوريا. والواضح ايضاً أنّ ثمّة توجّهاً أميركيّاً للسعي الى تحجيم دور ايران في سوريا مستقبلاً طالما أنّ طهران ترفض الجلوس والتفاهم مع واشنطن حول ملفات المنطقة.
في الجنوب السوري تجري ترجمة اتفاق اميركي – روسي على تفكيك جبهتي «النصرة» و»خالد بن الوليد» مقابل ضمان إبعاد ايران و»حزب الله» من خطوط الفصل مع إسرائيل بعمق 40 كلم. وجاءت التعزيزات الإسرائيلية في الجولان المحتل بمثابة رسالة إسرائيلية للالتزام بالاتّفاقات ولتنبيه الجيش السوري من تجاوز خطوط الهدنة اضافة الى اعتراضها على وجود كوادر من «حزب الله» بثياب القوات النظامية السورية.
ويجري ذلك وسط تصاعد التوتر الاميركي ـ الايراني وفي ظلّ تبادل الرسائل الأمنيّة.
صحيفة «التايمز» البريطانية تحدّثت عن تولّي الضباط الإيرانيين تدريب أفضل مقاتلي حركة «طالبان» الأفغانية وفق شرطين: الأول، زيادة التركيز على مهاجمة المصالح الاميركية وحلف شمال الاطلسي في افغانستان. والثاني تكريس مزيد من القوات لمقاتلة «داعش».
كذلك اتّهمت تقاريرُ صحافية ايران بممارسة انشطة تجسّس في المانيا يركّز بعضها على الجيش.
ولوحظ أنّ السفارة الاميركية في بغداد عمدت الى تعزيز إجراءاتها الامنية ومعاودة تحليق طائرات المراقبة الاميركية فوق قواعدها العسكرية ومناطق وجود القوات الاميركية في العراق.
وفي موازاة ذلك صعّدت فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران لهجتها العدائية ضد الاميركيين فضلاً عن حملة دعائية تعبوية ضد ترامب شملت جدران بغداد.
لكنّ هذا المناخ الملبّد وعلى رغم خطورته لا يشي بما هو أبعد، بل يبقى في اطار الضغوط المضادة.
ووفق اوساط ديبلوماسية مطّلعة فإنّ الردّ الروسي على الطلب الاميركي بإخراج إيران من سوريا، جاء سلبياً: «لا نملك الإمكانات الفعلية لإخراج إيران كلياً من سوريا اضافة الى انّ التزام هذه المهمة سيعني تهديد كل المكاسب الروسية في المنطقة والتي عملنا عليها خلال المرحلة الماضية».
واضاف الجواب الروسي بما يشبه النصيحة: «إنّ تجاهل مصالح إيران يستحيل أن يؤدّي الى إرساء سلام دائم في الشرق الاوسط، لا بل على العكس سينشر الفوضى وسيهدّد مصالحنا ومصالحكم».
وفي مؤشر اضافي على النّية الغربية بوجوب ترتيب مرحلة ما بعد الحرب في سوريا، تعيين الرئيس الفرنسي سفيره في ايران فرنسوا سيبمو ممثلاً شخصياً له في سوريا. صحيح أنّ باريس قالت إنّ هذا التعيين لا يعني إعادة فتح السفارة الفرنسية في دمشق لكنه يمهّد لذلك بلا ادنى شك. فالديبلوماسي الفرنسي الذي شغل سابقاً رئاسة الاستخبارات الخارجية وعمل قائماً بأعمال سفارة بلاده في سفارة لبنان إبان مرحلة «تفاهم نيسان»، يملك قنواتِ اتّصال وعلاقات شخصية في دمشق حيث يشكّل جهاز الاستخبارات الخارجية إحدى قنوات التواصل السرّي بين باريس ودمشق.
بدوره الرئيس السوري بشار الأسد كان أشار أخيراً الى أنّ دولاً غربية تسعى لتعزيز التعاون الامني مع الاجهزة السورية في مجال مكافحة الارهاب وأنّ دمشق تشترط أن يتمّ ذلك في اطار التعاون الديبلوماسي الرسمي.
هذه الخطوة التي تؤشر أكثر فأكثر للنّية الغربية بإقفال مرحلة الحرب، تؤكد أيضاً أنه لا يمكن تجاوز التأثير الإيراني وفق نصائح موسكو.
وبخلاف المعلومات التي راجت فإنّ «حزب الله» لم يتّخذ أيَّ قرار بإعادة جزء من قواته الى لبنان. هو يقوم بإجراء تبديلات ولكن ليس أبداً انسحابات، ما يعني أنّ حساباته ما تزال في حاجة الى كثير من الرعاية وهو ما ستبحث فيه القمّة الأميركية ـ الروسية.
وخلال الأيام الماضية التقى المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم في باريس مسؤولين فرنسيّين كباراً، بناءً على دعوة منهم حيث كان ملف النازحين السوريين بنداً أساسياً على جدول الاعمال.
وفي هذه الخطوة مؤشر اضافي الى «الطبخات» الجاري إعدادها للساحة السورية ومرحلة ما بعد الحرب.
وفي المقابل تسود في لبنان «خفة» و»ولدنة» وحسابات ضيقة حول سبل مقاربة التشكيلة الحكومية. فيما الحدّ الأدنى من المسؤولية والنضج السياسي يفترض الذهاب الى حكومة مصغّرة تضمّ كفايات لا محسوبيات ولا «أزلام»، لمواكبة التغييرات الهائلة التي تنتظر سوريا وستؤثر بقوة على لبنان ومستقبله وتركيبته، في وقت يقترب من خطر الافلاس.
وفي هذا الإطار تكشف مصادر ديبلوماسية معنيّة عن وجود فكرة لزيارة قد يقوم بها وزير الخارجية الاميركية بومبيو الى بعض العواصم في الشرق الاوسط ومن ضمنها بيروت وذلك بعد القمة الاميركية ـ الروسية، ورغم أنّ هذه الجولة لم ترتقِ الى مستوى القرار إلّا أنّ الفريق المعني في وزارة الخارجية الاميركية يدرسها بتأنٍ مع الاشارة الى الاتّصال الذي أجراه بومبيو بالحريري ما يؤكد تأثير نتائج القمة الاميركية ـ الروسية على لبنان.