IMLebanon

الأخلاقيّات المفقودة!

 

بمعزل عن الطروحات السياسيّة التي تطفو على السطح من هنا وهناك تارة تحت عنوان تغيير النظام وتطوير الصيغة وطوراً تحت شعار إستعادة الصلاحيّات المهدورة وإعادة الاعتبار للدستور المُنتهكة أحكامه صبح مساء؛ ثمّة حاجة جديّة وملحة لإعادة ترتيب الأولويّات بما يتلاءم مع تحدّيات المرحلة ومصاعبها المتراكمة التي باتت تشكل خطراً وجوديّاً على الصيغة والكيان والنظام بكل مكوناتها.

 

الأولويّة الراهنة لا تتعلق حتماً بالصيغة والنظام، ولا بتوزيع الصلاحيّات وإحياء الخطاب الشعبوي الذي لم يعد يفعل فعله كما كان في الحقبات الماضية نتيجة تراكم الوعي السياسي عند المواطنين وإدراكهم أهميّة النظر إلى الأمور من منظار جديد أكثر وضوحاً وأكثر إستيعاباً لطبيعة التحولات الاستثنائيّة التي شهدها لبنان في السنوات القليلة الماضية وهي غير مسبوقة بطبيعتها وحجمها وعمقها ونتائجها المرتقبة.

 

الأولويّة هي لوقف الإنهيار وبذل كل الجهود الممكنة للحيلولة دون “الارتطام الكبير” الذي صار على قاب قوسين أو أدنى. والأولويّة هي لتعزيز إمكانيّات الصمود عند الناس بانتظار وضع الحلول المرتجاة على السكة والبدء بالخروج التدريجي من الأزمة بكل تعقيداتها واشكاليّاتها. الأولويّة هي للصعود من مستنقع الفقر الذي أغرق فيه ما يزيد عن نصف الشعب اللبناني بسبب سياسات الاستهتار والمحاباة والشعبويّة الرخيصة التي تسعى إلى استدرار العطف الطائفي والمذهبي والبناء عليه لتوسيع قواعد الحضور الشعبي والسياسي وتالياً النيابي والوزاري.

 

الأولويّة هي لأن تمارس أجهزة الدولة الرسميّة، أو ما تبقى منها، دورها بصرامة في كشف الغش والتلاعب بالأسعار والاحتكار وتكديس السلع في المستودعات بانتظار المزيد من تدهور العملة الوطنيّة مقابل الدولار الأميركي الذي أصبح متفلتاً من أية قيود ماليّة أو سياسيّة.

 

الأولويّة هي أن تمارس حكومة تصريف ما تبقى من الأرواح مهامها ومسؤوليّاتها ودورها ضمن نطاق تصريف الأعمال للحد من السقوط اليومي المريع بدل أن تستنكف وتعتكف وتبتعد عن المشهد السياسي كأنها حكومة تصريف الأعمال في زيمبابوي أو الصومال أو مدغشقر أو أثيوبيا (مع التقدير لهذه الدول وبعضها أصبح أكثر تقدّماً من لبنان- مبروك لها!).

 

الأولويّة هي لتأليف حكومة جديدة من أصحاب الكفاءات تعمل بشفافيّة وتملك القدرة على أن تعيد الثقة محليّاً وخارجيّاً وأن تفتح النقاش مجدداً مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لرسم أولويّات محددة للمرحلة المقبلة يكون عنوانها الأساسي الإنقاذ والخروج من المأزق تدريجيّاً. وفي الوقت ذاته، تُعد للانتخابات النيابيّة المقررة العام المقبل وفق أعلى معايير النزاهة والديموقراطيّة بما يتيح إعادة إنتاج السلطة وفق قواعد جديدة تمنح بعض الأمل للمواطنين البائسين الذين ضاقت بهم سبل العيش ولم يعد أمامهم إلا الفقر أو الهجرة إذا وجدوا لذلك سبيلاً.

 

كثيرة جداً هي الأولويّات. فليس ثمة قطاع لا يحتل الأولويّة في ظل هذه الأزمة المستفحلة على كل المستويات. الطبابة، الدواء، الخبز، المحروقات، الكهرباء، المياه، الاتصالات، الانترنت وتطول اللائحة… لاحظوا إلى أي مستوى انخفض طموح أبناء الشعب اللبناني! لاحظوا طبيعة المسائل التي باتت تشغل باله! إنها مقومات الحياة البسيطة، البديهيّة والأساسيّة التي يفترض أن تكون متوفرة بدون منّة من أحد.

 

ولكن كل هذه الأولويّات تصبح في متناول اليد عندما تحصل تحولات جوهريّة في المقاربة السياسيّة للقضايا الوطنيّة، وعندما تصبح المقاربة أكثر “أخلاقيّة” عوض أن تكون أكثر مصلحيّة وفئويّة. الطريق الوحيد الذي يمكن من خلاله تحقيق خرق ما في جدار الأزمة غير المسبوقة هو من خلال العودة إلى الأخلاق والترفّع عن المطالب السياسيّة الشخصيّة والاقلاع عن الاخلال بالتوازنات والعودة إلى القواعد الطبيعيّة في العمل السياسي.