كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري ملزماً بالدعوة لجلسة لانتخاب رئيس للجمهورية قبل انقضاء الشهر الاول من المهلة الدستورية. وهي في كل الحالات الجلسة التي يحتاجها الجميع، لترتيب حساباتهم وفق الصورة التي ستتظهر خلالها.
ولم يبدِ أي طرف قلقه من الذهاب إلى هذه الجلسة، طالما انّ هنالك صعوبة تقارب الاستحالة، باحتمال ان تؤدي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ذلك انّ احدى «ميزات» هذا المجلس النيابي انّه يتوزع قدرة التعطيل بين اكثر من طرف، ما يجعل من الصعوبة بمكان انتخاب رئيس لم يحظَ مسبقاً على تفاهم مختلف الاطراف.
وهذه الجلسة التي ستحتل حيزاً واسعاً في الحركة السياسية اللبنانية، لن تكون قادرة في الوقت نفسه على حجب الصورة تماماً عن النزاع القائم حول انتاج حكومة جديدة.
فالنزاع هنا كبير رغم «مساحيق» التجميل التي وضعت وأوحت بقرب ولادة الحكومة. في الحقيقة النزاع حول الحكومة هو وجه أساسي من أوجه النزاع حول الاستحقاق الرئاسي والادوار السياسية للمرحلة المقبلة.
وخلال الايام الماضية عادت وظهرت «شروط» جديدة تتعلق بالتفاهم حول الحكومة، وشاع انّ رئيس الجمهورية ميشال عون يريد توسيع دائرة الوزراء المطروحين للتغيير ليصل العدد إلى أربعة، واحد درزي وثانٍ سنّي وثالث شيعي ورابع مسيحي.
وتردّد ايضاً انّ حسم هذه الأسماء سيستلزم جلسة طويلة بين عون والرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، لكن ما استجد ذهب أبعد بكثير، ووضع علامات استفهام جدّية حول امكانية حصول ولادة سهلة للحكومة. ففي الكواليس كلام من انّ النائب جبران باسيل أبلغ إلى من يعنيهم الامر أنّه وافق على مضض على تجاوز مطلبه بإضافة 6 وزراء دولة من السياسيين، لكنه اليوم مصرّ على مطلبه بتبديل 5 وزراء من حصته، 4 مسيحيين وخامس سنّي، واستبدالهم بخمسة أسماء مسيحية، وعدّد باسيل اسماء الوزراء الخمسة التي ينوي استبدالها.
الواضح انّ باسيل يريد حصة مباشرة وصلبة تتجاوز العشرة وزراء، وهو بذلك يريد ضمان موقعه وقوته في مساحة القرار خلال فترة الشغور الرئاسي، وإذا لم يتحقق هدفه ورفض رئيس الحكومة مطلبه وهو الأرجح، فإنّ باسيل سيعمد إلى رفع مستوى المواجهة والتشكيك بشرعية حكومة تصريف الاعمال ودستورية تسلّمها مقاليد السلطة، وبالتالي اللعب على خطاب غرائزي هدفه إعادة شدّ العصب لمصلحة تياره. والرهان هنا أن يخضع ميقاتي تجنّباً لحملة ضدّه ستؤذيه حتماً، والرهان ان يسرع إلى القبول واعطاء موافقته الاسبوع المقبل. وليست هذه الورقة الوحيدة التي يطمح باسيل من خلال الامساك بها إلى اعادة شدّ عصب فريقه، بل هنالك ورقة اخرى تتعلق باستخدام الشارع. ووفق المعلومات، فإنّ باسيل يعمل على تحضير تحركات شعبية تواكب انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، وتتنوع هذه التحركات بين انتشار على الطرق وإقامة تجمعات ما بين بيروت والمناطق. لكن السؤال هو عن السبب في الإصرار على استخدام الشارع، على الرغم من الادراك سلفاً أنّ مخاطر الشارع كبيرة، ومن الممكن ان تؤدي إلى سقوط دماء، والشواهد البعيدة والقريبة كثيرة.
وبالتالي، فإنّ الاشتباك الحكومي والسقف المرتفع من جهة واستخدام الشارع، حتى لو شهد صدامات دموية من جهة ثانية، يأمل منهما باسيل شدّ العصب الى أقصى درجة ممكنة، تمهيداً لطرحه الرئاسي الذي يقوم بوضع اللمسات النهائية عليه. فوفق مصادر دقيقة، فإنّ باسيل ابلغ إلى حلقته الضيّقة أنّه صرف النظر نهائياً عن امكانية ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، فلا الظروف ملائمة ولا القوى السياسية متجاوبة ولا المناخ الخارجي يتقبّل ترشيحه. لكنه في الوقت نفسه لن يترك المساحة مفتوحة امام منافسيه الأقربين قبل الأبعدين.
وفُهم من كلام باسيل، انّه صرف النظر نهائياً عن إمكانية التفاهم مع سليمان فرنجية، وانّه اتخذ قراره النهائي في هذا الشأن، وانّه سيتجّه لترشيح شخص باسم التيار مثل النائبة ندى البستاني على سبيل المثال. طبعاً هذا الطرح ستنتج منه مشكلات عدة، اولها داخل التكتل، حيث يطمح احد النواب البارزين فيه ان يكون هو المرشح الرئاسي للتيار، على أساس ان لديه علاقات جيدة مع مختلف الكتل النيابية، ما سيجعله أكثر قبولاً وحظاً من بستاني. لكن باسيل شكّك دائماً ولا يزال بولاء هذا النائب البارز، ويرسم علامات استفهام حول مروحة علاقاته المتنوعة، ورغم تأييد واصطفاف عدد من نواب التكتل خلفه. والمشكلة الثانية ستكون مع «حزب الله»، الداعم الاول لـ«التيار الوطني الحر». فعندما يطرح باسيل نفسه خياراً رئاسياً كبديل عن فرنجية، يكون «حزب الله» عندها محرجاً جداً في اعتماد خيار احدهما.
اما في حال المفاضلة بين فرنجية وشخص اختاره باسيل ليترشح للرئاسة، فإنّ «حزب الله» سيحسم موقفه مع فرنجية من دون تردّد.
ووفق ما تقدّم، فإنّ من الواضح أنّ الفوضى التي تسود مرشحة لأنّ تتصاعد اكثر، ولا شك في انّ «حزب الله» الذي كان سابقاً يستفيد من حالات الفوضى لتعزيز اوراقه وتحسين اوضاعه، انما يرى في تصاعد الفوضى عامل قلق هذه المرة، وسط المآسي المعيشية والمالية والاقتصادية التي تخنق المجتمعات والبيئات اللبنانية. ولا شك في انّه قرأ بتمعن الحركة السعودية الاخيرة في اتجاه لبنان بدعم دولي. هذه الحركة التي واكبتها بيانات ركّزت على حماية «اتفاق الطائف»، والمقصود هنا انّ النظام السياسي الحالي لن يكون ثمناً للتسوية المقبلة. و«حزب الله» الواقعي بخلاف «حلفائه»، قد يكون يدرك جيداً انّ لبنان قد بدأ فعلاً سلوك الدرب الصعب والشائك للوصول لاحقاً الى التسوية، وبالتالي الرئيس التوافقي. لكن لا احد يعرف الوقت الذي سيستلزم سلوك هذا الدرب، أشهراً ام سنة ام اكثر؟
والواضح من الاهتمام الدولي، انّ لبنان بدأ يسلك هذا الدرب، لكن هذا الاهتمام لا يزال بارداً بعض الشيء، ربما بسبب المشكلات الدولية الكثيرة، وربما ايضاً لأننا لا نزال في بداية الدرب الذي سيحتاج لأحداث عدة لإنضاج التسوية المنشودة.
والواضح ايضاً، انّ فرنسا هي من تتولّى مهمّة الدفع دولياً، متسلّحة بالدعم الاميركي. وليس تفصيلاً ان تتولّى باريس طرح الملف اللبناني في مؤتمر دول جنوب اوروبا والذي سينعقد بعد ايام في اسبانيا.
ولكن الأهم ما كشفته مصادر ديبلوماسية مطلعة، من أنّ الرئيس الفرنسي سيلتقي الرئيس الاميركي جو بايدن في بداية كانون الاول المقبل للبحث في ملف اوكرانيا والتحدّيات التي تواجه اوروبا. واللافت انّ لبنان سيكون بنداً اساسياً على طاولة البحث بين بايدن وماكرون.
وقبل ذلك، تعمل باريس على محاولة عقد مؤتمر في الاردن يضمّ إضافة الى الرئيس الفرنسي والملك الاردني، كلاً من تركيا ومصر وايران والسعودية وربما العراق، للبحث في مشكلات المنطقة، وسيكون لبنان ايضاً حاضراً في القمة في حال نجحت الاتصالات حيالها.
وفي بيروت، من المفترض ان تلتقي السفيرة الفرنسية آن غريو مسؤول «حزب الله» عمار الموسوي خلال الايام المقبلة، في اول لقاء بينهما منذ عودتها من بلادها، حيث امضت اجازتها. ومن المتوقع التطرّق إلى الاجتماع الفرنسي ـ السعودي، اضافة إلى الاجتماع الثلاثي الفرنسي ـ الاميركي ـ السعودي، والذي حصل في نيويورك.
هذا مع الإشارة إلى تغييرات ستطاول الفريق الفرنسي المكلّف الملف اللبناني، والتي ستشمل باتريك دوريل وايمانويل بون وربما برنارد ايمييه.