لا يبدو الخروج من الدوران حول الذات في موضوع تشكيل الحكومة قابلاً للتحقيق، فالإشارات القادمة من عواصم المبادرات أو أصحابها في الداخل لا توحي بالتفاؤل. المأزق ليس بين رئيس حكومة مكلّف قدّم نموذجاً لحكومة تتمتع بهامش محدود من الإستقلالية والتخصصية – فهي خاضعة في النهاية لمجلس نيابي تتحاصصه قوى سياسية قادرة على إسقاطها – ورئيس للجمهورية يصرّ على حكومة تخضع له. دوافع رئيس الجمهورية يختصرها الدور الذي ستضطلع به الحكومة في الانتخابات النيابية المقبلة، وتحديداً في التّصدي للمفاجآت المرتقبة على صعيد الأكثرية المسيحية على الأقل، وضمان استمرارية وضع اليد على السلطة مع التعطيل المرتقب في الانتخابات الرئاسية. من هنا يصبح موقف رئيس الحكومة المكلّف مستنداً إلى مخاوف يتشاركها مع رئيس المجلس النيابي ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي ومع كلّ الزعامات المسيحية، على اختلاف مواقعها، والتي لم تعد قادرة على المساكنة الصامتة مع حالة الاهتراء التي بلغتها رئاسة الجمهورية والقوى السياسية التي تدور في فلكها، وهذا ما يضيف المزيد من الاستحالة على فُرص تشكيل الحكومة.
لقد نجحت الطبقة السياسية التي حكمت لبنان ما قبل اتّفاق الطائف في الحفاظ على المظهر القانوني لملء مواقع السلطة على مدى عقود، سواء في الانتخابات النيابية أو الرئاسية كما في تشكيل الحكومات، مع التسليم الدائم تقريباً بالفشل على مستوى الأهداف، بمعنى عدم صلاحية شاغلي مواقع السلطة في تحقيق المصالح الوطنية. التزمت مجالس النواب حينها بمعادلة الحفاظ على النظام السياسي وعدم المواجهة مع ميزان القوى الإقليمي، فيما شهدت تلك العهود صنوفاً متعددة من محاولات السيطرة على مجالس الوزراء وتعديلات معلّبة لقوانين الانتخابات، ومارس رؤساء الجمهورية المنتخبون كلّ أنواع العبث للهيمنة على القرار السياسي في البلاد.
واكبت الأزمات السياسية كلّ العهود الرئاسية منذ بداياتها وبلغت ذروة الانقسام الوطني في نهاياتها لتستعيد مع كلّ عهد الالتزام بما يمليه الاستقرار. لكنّ الخروج عن المألوف كان في نهاية عهد الرئيس أمين الجميل ليس فقط في تحويل المجلس العسكري إلى حكومة إنتقالية – خلافاً للدستور – تؤمّن الظروف لإجراء إنتخابات رئاسية – بالرغم من استقالة نصف أعضائها – بل في تحوّل هذه الحكومة إلى شعبوية دكتاتورية، أعلنت الحروب في الداخل والخارج دون رادع، وحلّت المجلس النيابي بما هو أداة دستورية لإنجاز المهمة التي شُكّلت تلك الحكومة من أجلها. وبمعنى أدق حوّلت المواطنين إلى دروع بشرية لحماية الحاكم وضمان ذهابه إلى أبعد حدود الهيمنة، تحت طائلة الصِدام الأهلي كخيار لا مناص منه لرفع كلفة التغيير، وهذا ما حصل. تلقت المؤسسة العسكرية في حينه الصدمة الكبرى ودفعت الثمن الأكبر، كما دفعت المؤسسات الدستورية ولا تزال من استقلاليتها ضريبة تسرّب هيمنة النظام الأمني إلى مفاصلها.
الاختلاف الأساس بين ما قبل الطائف وما بعده، هو سقوط السلطة في لبنان ما بعد العام 2006 في أحاديّة إقليمية لا تراعي هواجس المجتمع اللبناني واختلال معادلة ثبات النظام السياسي. مثّل التجديد القسري للرئيس إميل لحود في العام 2004 بداية انهيار المعادلة الضامنة لتكوين السلطة وقدم انتخاب العماد ميشال عون لموقع الرئاسة أحد الاستثمارات الأكثر شراسة للتعبير عن الخلل الإقليمي. تعكس حراجة الموقف السياسي الحالي صعوبة الاختبار الذي تجتازه رئاسة الجمهورية وقدرتها على الحفاظ على استئثارها بالسلطة في ظلّ ضبابية الموقف الإقليمي. ويعكس التعنت السياسي حسابات محلية طائفية لا تجد إمتدادها لدى جمهور كبير من المسيحيين الذين استخرجوا الدروس من التجربة، وقد لا تتلاءم مع متغيّرات إقليمية مجهولة النتائج تخوضها الجمهورية الإسلامية في طهران.
يوحي تشبّث رئاسة الجمهورية بالعزم على استنساخ تجربة العام 1990 والذهاب حتى النهاية في إسقاط ما تبقّى من مرتكزات الحياة السياسية. من هنا لا يبدو الإيحاء باستقالة نواب التيار الوطني الحر من المجلس النيابي نوعاً من المناورة، بل هو إجراء مرتقب للدخول في مرحلة إسقاط المجلس النيابي وإسقاط التكليف المّعطى للرئيس الحريري وإنتاج ظروف إعلان سقوط الجمهورية الثانية. تعبّر رئاسة الجمهورية بكلّ وضوح عن كلّ ما أرادته من تحالفاتها السياسية مع حزب الله منذ اتّفاق مار مخايل دون أن تدري مدى استعداد حليفها لمواكبتها في ظلّ خيارات صعبة تخوضها طهران ومدى قدرة البيئة اللبنانية وتحديداً المسيحية على مجاراتها.
تتوهم رئاسة الجمهورية القدرة على فرض الشروط الملزمة لتأسيس الجمهورية الثالثة وفقاً لشروطها، فالمؤتمرات الدولية لا تعقد لتسويات طائفية بل لإعادة توزيع الأدوار على لاعبين تتوافر لديهم شروط الثقة والقدرات اللازمة. إنّ محاولة الملاءمة بين ما تبقى من العهد مع الرهان على إنضاج مشهد إقليمي جديد ليست أكثر من إطلاق رصاصة الرحمة على الرأس.
العميد الركن خالد حمادة