ضربت أمواج الأزمات حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها الرئيس تمام سلام، طوال العام 2015، ومزقت أشرعة عملها لكنها لم تستطع تحطيم هيكلها على الرغم من رياح التعطيل الداخلية التي هبت عليها أكثر من مرة، والشغور الرئاسي الذي أخل في توازن عملها وإبحارها وسط محيط إقليمي ودولي هائج، وعلى الرغم من ذلك بقيت الحكومة عالقة وسط مياه التعطيل الموحلة من دون أن تغرق أو تتمكن من الرسو على شاطئ تسوية داخلية، تنجب رئيساً للجمهورية وتنتج حكومة فعالة وتضع المؤسسات الدستورية على سكة العمل المنتظم.
في الاصل كانت ولادة الحكومة قيصرية ومتعثرة، إذ بعد أحد عشر شهراً من تكليف الرئيس تمام سلام (نيسان 2013) تشكلت الحكومة في 15 شباط 2014، لكن لم يمض أكثر من ثلاثة أشهر حتى دخلت البلاد في دوامة الشغور الرئاسي، لتتولى بعدها الحكومة منذ ذلك الوقت وطوال العام 2015 مهمات رئاسة الجمهورية وما تبعها من»مناكفات« بين مكوناتها، حول صلاحيات الحكومة والوزراء وآلية العمل الحكومي ثم ملف التعيينات الامنية، لكن في كل مرة كان يتم تطويق هذه المناكفات برغبة دولية وإقليمية باستمرارها في ظل ضبابية المشهد الاقليمي والدولي، ما يعني تحييد لبنان قدر المستطاع عن تداعيات هذه الضبابية.
قبل استعراض المناكفات لا بد من التذكير أنه في الأشهر الأولى التي تلت الفراغ الرئاسي، سارت أمور الحكومة بشكل مقبول وإن كان بطيئاً، إذ كانت جلساتها تُعقَد أسبوعياً، وكانت القرارات والمواضيع الخلافية توضع جانباً حتى لا تفجّر أزمة داخل الحكومة، من أجل تسيير شؤون البلاد والعباد ولو بالحدّ الأدنى، واستطاعت تسجيل إنجازات قليلة وأولها الملف الأمني ومواجهة الارهاب، حيث حققت نتائج ملموسة في العام 2015 في هذا الملف، تكاملت مع مواقف القوى السياسية الداعمة لها وأبرزها ما ادلى به الرئيس سعد الحريري بدعمه«كل الإجراءات الأمنية، للتأكيد أن لا بيئة حاضنة للإرهاب في أي مكان في لبنان«، وفي ملف إطلاق العسكريين المحتجزين لدى «النصرة« الذي جرى في نهاية العام، وأيضاً في تجنب الفراغ الأمني (وإن كان ترافق ذلك مع معركة طاحنة من قبل وزراء «التيار الوطني الحر« و«حزب الله« داخل الحكومة)، من خلال التمديد للمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء إبراهيم بصبوص، إذ بناء على طرح وزير الداخليّة نهاد المشنوق الذي اقترح تعيين عثمان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي في إحدى جلسات مجلس الوزراء، لكنه لم ينل إجماعاً داخل الحكومة، فقام المشنوق بتمديد ولاية بصبوص سنتين لمنع الفراغ في قيادة المؤسسة الأمنيّة، ثم تم التمديد للأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع اللّواء محمد خير، ومدير المخابرات العميد الرّكن إدمون فاضل وقائد الجيش العماد جان قهوجي استناداً إلى المادّة 55 من قانون الدفاع الوطنيّ الّذي يتيح ذلك لوزير الدفاع سمير مقبل، لكن سرعان ما لقيت هذه الخطوة اعتراضاً من تكتّل «التّغيير والإصلاح» وقام أعضاؤه بسحب الثقة من مقبل وتعليق جلسات الحكومة حتى الآن، على الرغم من أن ملفات طارئة أخرى مثل ملف النفايات استجدت على الساحة الداخلية، ومنها ملف النفط الذي يمثل ثروة وطنية بالغة الاهمية، إلا أن الحكومة فشلت في استصدار المراسيم التطبيقية اللازمة لتحويل حلم استخراج النفط إلى حقيقة.
إذاً تعرضت الحكومة طوال العام 2015 لعراقيل كثيرة خاصة من وزراء «التغيير والاصلاح« وبمساندة وزراء «حزب الله«، بعضها يتعلق بوضع جدول أعمال الجلسة وبعضها بأولوية بنود الجدول، ما حوّل الحكومة إلى بازار مفتوح لكل أنواع الابتزاز والعرقلة، أبرزها الخلافات الّتي شهدتها جلسة مجلس الوزراء في 11 شباط 2015 وانتهت برفعها من قبل رئيس الحكومة الّذي أعلن تعليق الجلسات «حتّى يتمّ إيجاد آليّة عمل منتجة»، فكانت التسوية بوضع البنود الخلافية جانباً، لكن سرعان ما عادت الخلافات الى الحكومة، وارتفعت حدتها في حزيران مع تزايد الكلام عن إمكانية التمديد لقائد الجيش، بعد إصرار رئيس تكتل «التغيير والاصلاح« النائب ميشال عون على تعيين صهره، قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز، قائداً للجيش، في مقابل تعيين العميد عثمان مديراً عاماً للامن الداخلي بديلاً من اللواء بصبوص وهكذا، بدأ الابتعاد تدريجياً بين مكونات الحكومة، ورفع وزراء التيار العوني سقف مطالبهم عالياً، عندما أعلن وزير الخارجية جبران باسيل رفض نقاش أي بند على جدول أعمال مجلس الوزراء قبل بت موضوع التعيينات الأمنيّة، عندها امتنع سلام عن الدعوة لالتئام مجلس الوزراء لنحو شهر، قبل أن تُعقد الجلسة التي فجرت الخلاف بعد إقرار الحكومة بنداً من دون موافقة الوزراء العونيين، ومنذ 28 آب الماضي إلى اليوم لم ينعقد مجلس الوزراء بسبب مقاطعة فريقين أساسيين، تكتل «التغيير والاصلاح« و«حزب الله«، ما حمل سلام ـ بعد نصيحة الرئيس نبيه بري وتمنيه ـ على تعليق الدعوة الى عقد جلسة لمجلس الوزراء.
كل هذا المسار من المناكفات والتعطيل دفع سلام إلى التلويح جدياً بالاستقالة أكثر من مرة، لكنه في كل مرة كان يستخدم «مخزون» الصبر والعقلانية الذي يتميز به، والذي كان محل ثناء وإطراء من جميع القوى على قدرته على الاستيعاب واحتمال وضع شاذ، وفي إحدى المقابلات صرح سلام بأنه «يتساءل في قرارة نفسه عما إذا كان هذا المديح في محله«، وهل هو مضطر لتحمل كل ما يتحمل؟ لأنه يخاف أن يفهم من الصبر والاستيعاب عدم تسهيل انتخاب رئيس الجمهورية، أو «كأننا نقول إن البلد يمشي من دونه«، هذا التساؤل يبدو منطقياً بعدما طوى العام 2015 أيامه على 33 جلسة فاشلة لانتخاب رئيس، ومن دون أن تتمكن الحكومة إلى الآن من حل ملفات عالقة أبرزها ملف النفايات، ما يعني عملياً أن الجمهورية بلا رأس وبحكومة مكبلة اليدين ومسلوبة الارادة إلى أن يقتنع المعطلون بأن الامور لا يمكن لها أن تستمر على هذا النحو.