كسر الانفجار الشعبي الذي كان معظم القادة السياسيين وبعض قادة الرأي يستبعدونه، الحلقة المفرغة التي حكمت الوضع اللبناني المأزوم: الانحدار الاقتصادي والمالي يتواصل والطبقة السياسية عاجزة عن اجتراح الحلول المعروفة منذ سنوات، إما بسبب قصورها، أو بإصرارها على معالجات قياساً على مصالحها. فقد تعامل بعض حديثي النعمة مع المأزق الذي أغرقت الأزمة الاقتصادية البلد فيه، وفق معادلة الإفادة من الوضع الحرج، من أجل عقد الصفقات في المال والسلطة. لقد قادهم شبق المنافع في هذا الاتجاه.
لكن الركون إلى الاستقطاب الطائفي الحاد في البلد حال دون توقع انفجار شعبي عابر للطوائف والمناطق. والاحتقان المتراكم جعل النقمة شديدة الوضوح حتى ضد زعامات ومرجعيات كان التعرض لها من المحرمات. بل إن محاولات شد العصب الطائفي من بعض الزعامات في الأيام والأسابيع الماضية أنتجت مفعولاً عكسياً.
ما من شك في أن الأقوياء في طوائفهم أصيبوا بأضرار كبرى جراء انفلات المواطنين الناقمين من عقال الولاء الطائفي، سيصعب تحديد درجتها قبل مضي المزيد من الوقت، مثلما سيصعب تحديد درجة مكاسب مفترضة عند أفرقاء تضرروا من ممارسات هؤلاء الأقوياء، ومن نشوة السلطة.
إنها لحظة نادرة في التاريخ اللبناني، أن نشهد وحدة شعبية تطرح هدفاً سياسياً هو إسقاط الحكام المتربعين على كراسي السلطة، على رغم أن هذه الوحدة ينقصها قيادة تبلور أهدافها في برنامج عقلاني.
الأيام السابقة على الانفجار الشعبي شهدت على مدى الاستهزاء بخطورة الأزمة عند بعض الفرقاء حين نسب نواب ومحيطون بالعهد أزمة نقص السيولة بالدولار، وشعارات ناشطين خلال التظاهرات المتفرقة في وسط بيروت ضد الرئاسة، إلى مؤامرة خارجية ضد العهد، وحين اتهم وزير الخارجية جبران باسيل أطرافاً في الحكومة بالتآمر أيضاً.
وشهدت الأيام السابقة مواقف تؤخر إنجاز الموازنة في موعدها الدستوري من قبل الحكومة عبر عودة الوزير باسيل عن خطوات كان اتفق عليها مع الحريري، ومواقف تهدف لإحراج الأخير من أجل إخراجه، بالحديث عن قلب الطاولة وزيارة سوريا على رغم معارضة رئيس الحكومة. وهو ما جعل فريق “المستقبل” يستنفر في وجه جهود لتحميله مسؤولية الأزمة الاقتصادية، ما دفع بالحريري إلى مصارحة البعض بأنه إذا كانت هناك نية لجعله كبش المحرقة على رغم الجهود التي يبذلها لإنقاذ البلد من مأزقه، فإنه يعرف كيف يقلب الطاولة على الآخرين ويضعهم أمام مسؤولياتهم.
أدت الاتصالات إلى استدراك الأمور، لا سيما من “حزب الله” الذي بدا متمسكاً ببقاء الحريري على رأس الحكومة مع الاستعداد للتعاون معه في إنجاز الموازنة. وهو ما جرى إبلاغه للوزير باسيل. وجرى تحصين هذا التوجه بلقاء رئيس البرلمان نبيه بري مع الحريري.
لكن مأزق الانفجار الشعبي وضع الجميع أمام الخيارات الصعبة أكثر من أي وقت. والحريري كان أكثر من دفع في كل مرة حاول فيها تدوير زوايا التناقضات السياسية بهدف إنجاز الإنقاذ الاقتصادي، ثمناً غالياً من رصيده.
واحد من أسباب المأزق الذي بلغه لبنان مع الانفجار الشعبي أن مقولة الحريري إبعاد الخلافات السياسية بسبب شهوات السلطة والنفوذ، عن الحكومة لم تنجح. إذ إن فصول الخلافات توالت على شكل موجات، خلال الأشهر الماضية، وسببت مرات عدة تجميد عمل الحكومة، بعد أن خضعت الإصلاحات الاقتصادية للمزايدات ولهذه الشهوات التي لا تنتهي.
بات الخيار بين الاستمرار على هذا المنوال الذي يستحيل أن يرضي الجمهور الواسع في الشارع، وبين حكومة اختصاصيين أو تكنوقراط، لا تتحكم بها الخلافات، كوسيلة لإبعاد الطبقة الحاكمة عن نظر الغضب الشعبي، ولو لبرهة من الزمن.