مرّ بسلام قطوع انتخاب هيئة مكتب البرلمان، وإن بمجازفة كان في الإمكان أن تخطئ بفارق صوت واحد. أما القطوع التالي، تسمية رئيس مكلف تأليف الحكومة، فلا أحد يسعه التكهن بمآله. لا أب له يسهر عليه كالاستحقاق الذي سبقه يكفل نجاحه، ولا رعيّة موحدة تمتثل
إلى أن يدعو رئيس الجمهورية ميشال عون إلى استشارات نيابية ملزمة، لن يقلّ المخاض المتوقع لتكليف رئيس جديد تأليف الحكومة عن ذاك الذي رافق، الأسبوع المنصرم، انتخاب رئيس للبرلمان. الأسباب نفسها ستقود إلى النتائج نفسها. انقسام الكتل هو ذاته. الخلاف على المرشح المحتمل سيكون نفسه، والحصيلة ستفضي إلى نهاية غير مرضية تماماً، على نحو ما حدث الثلاثاء من الأسبوع الفائت.
لم يكن التصويت على انتخاب هيئة مكتب مجلس النواب حالاً استثنائية عابرة، بل أضحى قياساً من المرجح أنه سيستمر، وربما يرافق كل جلسة اشتراعية للبرلمان بانقسام الكتل بعضها على بعض، وتفرّقها على كتل صغيرة وربما دون. انتخاب الرئيس نبيه برّي كان جرس الإنذار لما سيأتي بعد. في الأحوال العادية، في مطلع ولاية برلمان منتخب، على الأقل تبعاً لما حدث منذ عام 1992، كان انتخاب هيئة مكتب المجلس الاستحقاق الأسهل، الأقل تناحراً وخلافات، المضمون النتيجة. لم تكن كذلك انتخابات الثلاثاء الفائت. بالكاد، بفارق صوت واحد، تفادى برّي الانتقال إلى الدورة الثالثة والغالبية النسبية.
أما ما ينتظر تسمية رئيس مكلف تأليف حكومة جديدة، فيدور من حول أسباب مختلفة لأن يمر الاستحقاق المقبل بمطبات:
أولها، أن الاسم الأكثر ترجيحاً وشيوعاً للتسمية هو رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. في المقابل لا منافسين معلنين له إلى الآن. لم يُظهر أي من الكتل، لا سيما الجديدة منها كما النواب فرادى، أي عزم على مواجهة ترشيح ميقاتي بمنافس له. جلّ ما بَانَ إعلان بعض هؤلاء، مخضرمين أو جدداً، أنهم لا يؤيدون تكليفه، دونما تسمية بديل منه. البعض قفز من فوق اسم الرئيس المكلف كي يشترط سلفاً مواصفات الحكومة الجديدة، تكنوقراط أو سياسية أو حكومة غالبية. الصعوبة الكامنة في التكليف الجديد، أنه محوط بغموض وأكثر من التباس: الخروج من قاعدة أن المرشح الأفضل حظوظاً، بل المحسوم، يقتضي أن يكون زعيم طائفته، وقائدها، ورئيس غالبيتها النيابية، أو على الأقل مُسمّى منه. في ضوء ما انتهى إليه التمثيل السنّي في المجلس المنتخب، ليس ثمة زعيم لطائفته ومرجعها الأقوى إن لم يكن الوحيد. لا كتلة نيابية تسميه أو تدعمه. إلى ميقاتي تتردد تكهناً أسماء، بعضها من النواب الجدد كما من زملائهم العائدين. بيد أن أياً منها لا يحظى باتفاق طائفته عليه ظهيراً له.
ثانيها، خلافاً لانتخاب رئيس مجلس النواب، لا تتطلّب تسمية رئيس مكلف تأليف حكومة نصاباً محدداً ثابتاً كي يرسو الخيار عليه. ما يحتاج إليه بالفعل، دستورياً، هو استفتاء النصف + 1 على الأقل (65 نائباً وصعوداً) على الرئيس المكلف. شرط هذا العدد ملازم للمادة 34 من الدستور التي تقرن التئام البرلمان قانونياً بحضور الأكثرية المطلقة من أعضائه، وهي النصف + 1 كي يكتمل عقده. وهو النصاب نفسه للتصويت على القانون. استفتاء النواب الـ128 عند رئيس الجمهورية في قصر بعبدا، عملاً بالمادة 53، ليس سوى صورة مطابقة للمادة 34. كأن تلتئم الكتل والنواب الفرادى من بعد، ويرشحون أمام رئيس الجمهورية الشخصية التي يختارونها لترؤس الحكومة. بذلك، فإن النصاب الملزم في الاستشارات النيابية الملزمة هو استفتاء كل مجلس النواب، وفي أسوأ الأحوال يقتضي الحصول على أجوبة النصف +1 كي تستوفي الاستشارات النيابية الملزمة شروط قانونيتها. أما أصوات الفوز، فليست بالضرورة الأكثرية المطلقة. أي أكثرية تنبثق من مجموع المجلس، أو أكثرية نسبية تنبثق من الأكثرية المطلقة على الأقل، ترجّح كفة المرشح المستفتَى. يحدث أن يترشح أكثر من واحد دونما أن يحظى أي منهم 65 صوتاً. أعلاهم أصواتاً هو الفائز. على طرف نقيض من هذه الآلية، انتخاب رئيس البرلمان الملزم حصوله في الدورتين الأولى والثانية على الأكثرية المطلقة على الأقل (65 صوتاً)، ويكتفي في الدورة الثالثة بالغالبية النسبية من المقترعين.
لم يسبق قبلاً أن أثير سجال دستوري وسياسي من حول نصاب تسمية رئيس مكلف منذ عام 1992 لأسباب وجيهة ومبررة، هي أن الكتل الكبرى القابضة، حتى الوصول إلى برلمان 2022، على غالبيتي البرلمان (الأكثرية المطلقة وتلك الموصوفة)، كانت تتحكم بمسار التسمية وتفرض اسم الرئيس المكلف. الحال التي سيعصى توافرها الآن في ضوء التوازنات المهتزة في البرلمان الجديد. ناهيك بالدرس المستقى من انتخاب رئيس المجلس وهيئة مكتبه.
لا نصاب ثابتاً لتسمية الرئيس المكلف. والفوز بأكثرية نسبية محتمل
ثالثها، ليس من السهل هضم تسمية رئيس مكلف تأليف الحكومة، سنّي في الأصل، يفوز بأصوات الإجماع الشيعي وأكثرية درزية وأقلية سنّية ومقاطعة مسيحية واسعة، على نحو ما يتردد أن ترشيح ميقاتي للمنصب سيُواجه بتحدٍ كهذا. في المقابل لن يُصوِّت الإجماع الشيعي على مرشح لترؤس الحكومة لا يحظى برضى الثنائي وحلفائه، ومن غير المؤكد أنه سينال تأييداً درزياً ومسيحياً عريضاً. أضف – خلافاً لما رافق إعادة انتخاب برّي – أن ليس ثمة مرجعية سنّية متماسكة قوية وموحدة تفرض مرشحها لترؤس الحكومة على الأفرقاء الآخرين. في حساب سهل، النواب السنّة مشتتون موزّعون مُستعَارون إلى أكناف أخرى: بينهم مَن يقيم عند الثنائي الشيعي، أو عند التيار الوطني الحر، أو عند الحزب التقدمي الاشتراكي، أو متحالف مع حزب القوات اللبنانية، أو موجود في حصة نواب المجتمع المدني، أو يعمل لحسابه بالمفرّق.
على صورة ما شابَ انتخاب برّي، بأن افتقر الاقتراع له إلى أوسع قاعدة تمثيلية، تجبه تسمية الرئيس المكلف صعوبة أدهى. فاز رئيس البرلمان بأصوات الإجماع الشيعي وغالبية درزية وأقلية سنّية ومسيحية، ما فسرّ أن نصف المجلس اقترع إما لورقة بيضاء أو لورقة ملغاة. أوجب الوصول إلى هذه الخلاصة، أن ليس من مرشح شيعي منافس. المشكلة المقابلة للرئيس المكلف المحتمل – كميقاتي – أنه لا ينبثق من إجماع طائفته الضائعة الحائرة الموزّعة الولاء، بل من بعضها. يفوز بأصوات الإجماع الشيعي، وتقترع ضده الكتلتان المسيحيتان الكبريان، على الأقل كما جهرتا، ناهيك بنواب أحزاب المعارضة والمجتمع المدني والمستقلين. إذذاك تصبح العين على الأكثرية النسبية المؤهلة للفوز، لا الغالبية المطلقة المستعصية.