مع استمرار الارتياح الشيعي المعتاد في عملية تشكيل الحكومة، تغيّرت ظروف بقية اللاعبين. إذ إن الانتخابات أسفرت عن نتائج غيرّت شروط لعبة التشكيل، فعزّزت مواقع وأثارت إشكالات حول موقع الرئاسة الثالثة
مع انتهاء الانشغال بكل تداعيات الانتخابات النيابية ووضع مجلس النواب على السكة، لم تعد القوى السياسية قادرة على الهروب إلى الأمام وعدم مقاربة ملف تشكيل الحكومة. ولأن هذا الملف يبدو عالقاً منذ اللحظة الأولى على مجموعة من العقبات، جاء فتح ملف الترسيم البحري، في توقيته، وكأنه يقدّم ذريعة مناسبة لعدم التسرّع في ملف الحكومة. وإذا كان كل المتعاطين بملف الترسيم يعرفون أن الوسيط الأميركي عاموس هوكشتين عائد إلى بيروت بعد الانتخابات، وأن السفينة اليونانية آتية حتماً إلى المنطقة، وأن إسرائيل بدأت أعمال الحفر، فإن ذلك يعني أن لا مفاجآت، بالمعنى الحقيقي، للسلطة اللبنانية التي سبق أن أرجأت جوابها على المقترحات الأميركية إلى ما بعد الانتخابات. هذا كله يفضي إلى نتيجة واحدة قد تعطي الأفضلية حالياً للتريّث في تشكيل الحكومة وترك ملف الترسيم ومندرجاته في عهدة حكومة تصريف الأعمال إلى أن تنضج ظروف تشكيل حكومة جديدة.
والحكومة الموعودة لن تشبه في ظروف تشكيلها ما اعتاد عليه لبنان في المرات السابقة، ولو أنها شكلياً ستشبه حكومة الرئيس تمام سلام التي شكلت قبل انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان لتكون حكومة إدارة الفراغ، بعدما كان واضحاً عدم نضوج ظروف انتخاب رئيس جديد للجمهورية. اختلاف الظروف يكمن في تغيّر مواقع القوى السياسية الطائفية التي تتحكم بتشكيل الحكومة، ما خلا الثنائي الشيعي.
يمارس الثنائي، منذ الدوحة، الأسلوب نفسه، وشروطه لا تزال هي نفسها، لجهة التمسك بوزارة المال وضمناً بالثلث المعطل، وبثلاثية شعب وجيش ومقاومة في البيان الوزاري. ورغم أن قرار الإفراج عن الحكومة ينام دوماً في أدراج الثنائي الذي يخوض مراحل التفاوض الأخيرة، إلا أنه في الشكل يترك اليوم عملية التشكيل عالقة على حبال تسوية لا تزال غير ناضجة.
بخلاف الثنائي، تغيّرت أحوال القوى السياسة والطائفية الأخرى. لا تبدو الطائفة السنية اليوم الطرف الأكثر تورطاً في ملف الحكومة. الأسماء التي بدأت تطرح للتأليف لم يكن مصدرها الدوائر السنية، بل إن بعض الأسماء اقترحها التيار الوطني أو النواب التغييريون، أو حتى حلفاء الرئيس سعد الحريري وخصومه. ولم تكن نتائج الانتخابات وحدها التي فرضت إيقاعاً مختلفاً، بعد خسارة الرئيس فؤاد السنيورة وأركان أساسيين سابقين في تيار المستقبل، وانحسار تأثير رؤساء الحكومات السابقين في مجريات الحدث الحكومي. زاد ضبابية المشهد السني، تأثير الحريري المباشر في الانتخابات وخلق كتلة سنية لها حضورها. وما تركه ذلك من ذبذبة إضافية في البيت السني. ومن الطبيعي أن تتوجه الأنظار السنية إلى الرياض لمعرفة التوجه في اختيار الاسم العتيد لرئاسة الحكومة، في ضوء تريثها الواضح – بخلاف ملف الانتخابات – عن الدخول في لعبة الأسماء. وبقدر ما يختلّ التوازن داخل البيئة السنية يصبح اختيار الرئيس المكلف أمراً يخرج من يد القوى السنية الرئيسية. من هنا يتجدد طرح الرئيس نجيب ميقاتي الذي بات من دون كتلة نيابية، ومن دون التغطية الواسعة التي أمّنها الرؤساء السابقون الذين أضعفت الانتخابات دورهم. وقد يكون قادراً على استمالة الدائرين في فلك المستقبل، لكنه بات أكثر عرضة لابتزاز التيار الوطني الحر الذي بدأ يروّج لأسماء بديلة عنه. هذا التخبط السني سيكون الأول من نوعه ويشكل امتحاناً للقوى السنية في الخروج من الأزمة السنية الداخلية بتسمية رئيس للحكومة، بعدما شلّعتها الانتخابات.
قد يكون رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الوحيد الذي تحسنت ظروف حضوره الحكومي بعد الانتخابات. ورغم أنه ظل ممثلاً في كل الحكومات، مباشرة أو غير مباشرة، إلا أنه اليوم يرتاح أكثر من أي وقت مضى إلى تفرده في التمثيل الحكومي الذي يشارك فيه بحصّة كاملة من دون أن يضطر إلى ترك مقعد للتسويات الدرزية الداخلية أو للمساومات مع حلفاء مفترضين. واستعادة جنبلاط تفرده الحكومي والنيابي ليست أمراً يمكن تخطيه في قراءة موازين القوى السياسية المحلية، وقراءة خريطة تحالفاته التي لا يزال يتعاطى معها من زاوية تدارك مستقبل الطائفة والتحالفات التي تؤدي غرضها في تأليف الحكومة.
قراءة التيار لتشكيل الحكومة لا تزال تتم وفق معايير سنوات العهد الأولى لا الأخيرة
في المقلب المسيحي، المعضلة أكثر تشعباً لأن عيون كل القوى المسيحية على رئاسة الجمهورية أكثر من الحكومة. لكن التيار الوطني الذي خرج من الانتخابات عملياً من دون أن يحصد أصوات الشارع المسيحي، ويخشى في شكل جدي ما بعد 31 تشرين الأول، لا يزال يملك بفعل قوة وجود رئيس الجمهورية مفتاح الحكومة، أو على الأقل هكذا يحاول أن يتصرف، من خلال اطمئنانه إلى أن الكلمة الأخيرة في نهاية مسار الاستشارات هي لتوقيع رئيس الجمهورية. لذا يحاول سلفاً القفز فوق كل الاعتبارات، ومصالح الثنائي الشيعي، في التهدئة التي سار بها بعد الانتخابات. وقراءة التيار لتشكيل الحكومة لا تزال تتم وفق معايير سنوات العهد الأولى لا الأخيرة، بمعنى المتغيرات التي لحقت بالعهد وبالتيار خصوصاً في ضوء الانتخابات ونتائجها. لكن نهاية العهد ترتب عليه كثيراً من المسؤوليات التي يعرف سلفاً أنه إذا فقد أولويته فيها يخسر أوراقه الأخيرة. لا سيما أن حزب الله لا يزال يتصرف معه بما يشبه الحزم في عدم التعامل بثقة زائدة في رفع مستوى مطالبه في تشكيل الحكومة واسم رئيسها. وإذا كانت القوات اللبنانية عزلت نفسها مسبقاً عن الدخول في حكومة وحدة وطنية، متخليّة بذلك عن ترجمة نتائج الانتخابات النيابية في المكان المناسب، بعد فشلها في ترجمة نتائجها النيابية في معركة نيابة رئاسة المجلس وهيئة المكتب، فإن التمثيل المسيحي في الحكومة واختيار رئيسها سيعود مجدداً إلى التيار مع دخول تيار المردة إلى الخط، واحتمال قبول المستقلين التمثل بالحكومة. وهذا الأمر سيضيف هموماً إلى التيار في مقاربة التمثيل المسيحي في نهاية العهد. وإلا سيكون مسيحيو المعارضة أخرجوا أنفسهم من الساحة الحكومية، على افتراض أن المعركة الآتية لرئاسة الجمهورية ستكون هي الاستحقاق الذي يحتاج إلى حضورهم في شكل مباشر لمواجهة قوى 8 آذار.