ستتمخّض الاستشارات النيابية الملزمة الخميس المقبل عن اسم ستُناط به مهمة تشكيل الحكومة. لكنّ التكليف المرتقَب يبدو من دون كفالة سياسية، ويُخشى ان يكون شيكاً بلا رصيد، ما لم يتم ضمان “مؤونته”.
اذا كان تشكيل الحكومة في لبنان معروفاً بتعقيداته التي غالباً ما تتسبّب في إطالة أمد المخاض وأوجاعه قبل وضع الجنين، فإنّ استحقاق التأليف في مرحلة ما بعد الانتخابات الأخيرة يواجه الى جانب متاهة الحسابات التقليدية، تحديات إضافية من بينها انّ “الرحم النيابي” الذي يُفترض ان تخرج منه الحكومة المقبلة باتَ موزّعاً الى مراكز قوى مبعثرة ومتحركة، بحيث انّ “استجرار” الثقة الالزامية من المجلس المنتخب سيغدو اكثر صعوبة عمّا كان عليه قبلاً.
والأهم، انّ احداً مِمّن هم معنيون بتشكيل الحكومة لا يتعاطى معها في قرارة نفسه على أساس انها آتية فقط لتقطيع الاشهر الأربعة الفاصلة عن موعد الاستحقاق الرئاسي بأقل الخسائر الممكنة ثم يعود اعضاؤها الى منازلهم بعد تسليم الأمانة كما يحصل في الدول المنتظمة، بل انّ الجميع يضعون في الحسبان انّ تلك الحكومة هي التي ستتولى ملء الفراغ وادارته اذا تعذّر انتخاب رئيس الجمهورية في 31 تشرين الأول المقبل. وبالتالي، فإنّ وزراءها لن يكونوا عاديين بل سيحلّون مجتمعين مكان رئيس الجمهورية، اي انهم سيصبحون “ميني رؤساء” كما بيّنت تجربة حكومة الرئيس تمام سلام التي استلمت زمام الأمور بعد تَعثّر انتخاب خلف للرئيس ميشال سليمان بعد انتهاء ولايته.
من هنا، فإنّ المعركة على توازنات الحكومة المقبلة ستكون شرسة ودقيقة، وكل من يعتزم الدخول اليها سيحاول تحسين موقعه فيها، كمّاً ونوعاً، تَحسّباً لكل الاحتمالات، ما يؤشر منذ الآن إلى انّ طبيعة تركيبتها وحقائبها الاساسية ستكون موضع تجاذب حاد.
أضف الى ذلك أنّ التشكيل كما التكليف سيكون مناسبة لجولة جديدة من جولات النزاع على لون الأكثرية النيابية، خصوصاً بالنسبة إلى القوى المضادة لتحالف 8 آذار – التيار الحر والتي تريد أن تعوّض عن الانتكاسة التي أصيبت بها في انتخابات رئاسة المجلس النيابي ونائبه وهيئة المكتب.
وبهذا المعنى، فإنّ تلك القوى تشعر الآن انها “تحت الضغط” وتحتاج إلى تسجيل هدف رد الاعتبار في مرمى الفريق الآخر، خصوصاً انها هي التي بادرت بعد الانتخابات الى الترويج بأنها حققت الأكثرية، وبالتالي صار عليها ان تثبت صحة تقديراتها، بينما تحرر “حزب الله” من هذا الضغط بإعلانه غداة 15 أيار انه لا هو ولا غيره يملك الأكثرية التي أصبحت في رأيه متحركة تبعاً للملف المطروح وطبيعة الاصطفاف حوله.
ومن الواضح انّ الحزب وحلفاءه يتفادون تكبير الحجر الى الحَد الذي يُعيق رَميه، ويعتمدون تكتيك “قضم” الاستحقاقات كلما أمكَن ذلك، عبر إدارة مدروسة لها، ترتكز على نسج تقاطعات بين مكونات الخط العريض من جهة ومع أطراف خارِجه من جهة أخرى، في حين انّ المعارضة بتلاوينها الممتدة من الأطر الحزبية (كالقوات والكتائب والاشتراكي والاحرار) وصولاً الى النواب التغييريين، لا تزال تبحث عن ذاتها وهويتها، وسط إشكالية تعاني منها وتتمثّل في كونها تعرف ما ترفضه ولكنها غير مُتّفقة على ما تريده.
وبناء عليه، يواجه هذان الاتجاهان امتحاناً جديداً في مادتَي التكليف والتأليف، إذ سيحاول كل منهما فرض إيقاعه على عملية تسمية الرئيس المكلف وتشكيل الحكومة في سياق السعي الى ترتيب قواعد الاشتباك السياسي للمرحلة المقبلة.
المعارضون يتطلّعون الى ان يثبتوا انّ “اللعبة” تغيرت إثر الانتخابات النيابية وان ما كان يصحّ قبلها لم يعد يصحّ بعدها، وفريق 8 آذار والتيار يهمّه أن يثبت مرة أخرى انه لم يفقد زمام المبادرة ولا يزال ممراً إلزامياً الى السرايا كما الى بعبدا لاحقاً، علماً انّ تحدي التوفيق بين مصالح مكوناته الاساسية في هذا المجال لن يكون سهلاً، وهناك عبء كبير ينتظر الحزب المتطوّع باستمرار لترتيب بيت بمنازل كثيرة.
ولعل إعادة تجديد شرعية أغلب أفرقاء الطبقة السياسية من خلال صناديق الاقتراع ستشجّعهم على “التنقيب” عن الحصص والمصالح في “حقل” الحكومة الجديدة من دون أي حرج، مُستندين الى التفويض الشعبي المتجدد لهم بعدما اهتزّ عقب حراك 17 تشرين.
وللرئيس عون والتيار أيضاً حساباتهما المنفصلة عن الآخرين ومن ضمنهم الحلفاء. انها الحكومة الأخيرة في العهد البرتقالي، وهي مثل الأولى، تخضع الى معايير دقيقة، خصوصا انها ستواكب المراحل الحاسمة من مفاوضات ملف الحدود البحرية والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي وغير ذلك من الملفات الحيوية.
بالتأكيد يأمل عون في أن يَختتم ولايته بحكومة أصيلة قد تُنجز شيئاً يُضاف الى رصيده قبل ان يغادر القصر، لكنه لن يقبل بأن يتم التصرّف معه وكأنّ عهده انتهى منذ الآن.
وهو اذا كان عازماً على أن لا يبقى دقيقة واحدة في بعبدا بعد 31 تشرين الأول الا انّ المطّلعين يؤكدون انه أيضاً لن يتنازل عن أيّ من صلاحياته الدستورية ولو قبل دقيقة واحدة من مغادرته.