ثمة حسابات مخفية تحول دون الولادة الحكومية. فالمتعارف عليه وفق تجارب الحياة السياسية في لبنان، انّ اسباب المشكلات والملفات المعقّدة التي تُطرح في الإعلام لا تعبّر فعلياً عن جوهر المشكلة القائمة. في الواقع، فإنّ الحسابات القائمة بين مختلف الاطراف حول المشكلة الحكومية تطاول مرحلة الفراغ الرئاسي الذي يستعد له الجميع.
بات معلوماً انّ خيار الذهاب إلى حكومة ثلاثينية من خلال إضافة 6 وزراء دولة لن يمشي به رئيس مجلس النواب نبيه بري، بتأييد خفي من الرئيس نجيب ميقاتي والنائب السابق وليد جنبلاط.
فعدا عن انّ تعيين 6 وزراء دولة سيمنح رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل الثلث المعطّل، كونه الجهة التي ستسمّي الوزراء المسيحيين الثلاثة، فإنّ هذه التسميات ستكون سياسية بامتياز، وتنتمي مباشرة إلى القوى السياسية المعنية. وهو ما يعني إعادة إحياء حضور باسيل المباشر من خلال تياره، في وقت من المفترض ان يشكّل خروج رئيس الجمهورية ميشال عون من القصر الجمهوري عامل إفقاد باسيل كثير من عناصر قوته.
واستطراداً، فإنّ تأثير باسيل بعد 31 تشرين الاول سيكون مختلفاً عن المرحلة التي سبقت. لأجل ذلك يرفض خصوم باسيل منحه ورقة «إضافة» وزراء الدولة الستة.
إضافة إلى انّ إمساك باسيل بحصة «الثلث المعطّل» لوحده، سيعطيه قوة تأثير تقارب قوة رئيس الحكومة، من خلال القدرة على تأمين او تعطيل انعقاد جلسات مجلس الوزراء خلال مرحلة الفراغ الرئاسي، والتي يهمس البعض في الكواليس انّها قد تطول لنحو سنة كتقدير أولي.
وبخلاف الانطباع السائد، فإنّ باسيل على ما يبدو فَقَد الثلث المعطّل في التركيبة الحكومية القائمة حالياً. فأحد الوزراء الموارنة الذي جيء به كوزير مشترك بين ميقاتي وباسيل مع أرجحية أعلى للثاني، عدّل من مساره وبدا خلال ممارسته الوزراية اقرب إلى ميقاتي منه إلى باسيل.
كذلك فإنّ وزيراً آخر من الطائفة المسيحية، ويشغل وزارة حساسة، يستعد لأخذ مسافة من باسيل بعد الدخول في الفراغ الرئاسي. وهنالك ثالث يستعد لشيء من هذا القبيل، ولكن عند طرح مسائل مفصلية. ولا شك في أنّ رئيس «التيار الوطني الحر» بدأ يشعر بذلك، وهو ما يجعله يضغط في اتجاه توسيع الحكومة الحالية.
ومعه، فإنّ الاقتراح القاضي باستبدال وزيري الاقتصاد والمهجرين بآخرين أحدهما من عكار والثاني درزي غير مستفز لجنبلاط، لا يلبّي الحاجة الفعلية التي تقف وراء السعي لحكومة جديدة.
وهذا ما يعطي الانطباع بأنّ النزاع الحقيقي الدائر حول خلفية الملف الحكومي لا يوحي بحلول قريبة. فبري ومن خلفه ميقاتي وجنبلاط، قد يعتقدون أنّ باسيل الذي يأمل في إعادة خلط الاوراق الرئاسية بعد الدخول في مرحلة الفراغ الرئاسي، يريد ورقة حضور قوية في الحكومة لإعادة وضع حظوظه الرئاسية على الطاولة، وهذا ما يجعلهم يرفضون صيغة وزراء الدولة.
لذلك، ربما دخل «حزب الله» على الخط، طارحاً إعادة تعويم الحكومة الحالية ومنحها الثقة من دون أي تعديلات او حتى تبديل وزيرين، لأنّ لا معنى لذلك، لا بل انّه سيدفع لإغضاب حليفه طلال ارسلان الذي خرج خالي الوفاض من الاستحقاق النيابي.
لكن «حزب الله» يريد حكومة شرعية كاملة المواصفات في مرحلة الفراغ الرئاسي، خشية ان تطول فتصبح حكومة تصريف الاعمال، عبئاً عليه بسبب واقع داخلي ضاغط، وحيث من المرجح ان تشهد مرحلة الفراغ الرئاسي مفاوضات صعبة مع العواصم الغربية عبر الفرنسيين على الأرجح للتفاهم على المرحلة المقبلة.
لكن باسيل قد يجد مصلحة في إبقاء الحكومة على حالها، أي في اطار تصريف الاعمال للتشكيك بشرعيتها كل لحظة في حال الفشل في تشكيل حكومة تضمن له الثلث المعطّل، والتلويح لميقاتي ومن خلفه لحراس «اتفاق الطائف» بأنّ الأمور اصبحت اقرب إلى ازمة نظام منه إلى ازمة حكومية. واستطراداً «إما أنا او لدفع الامور إلى البحث عن صيغة جديدة».
صحيح انّ هذه المعادلة قد لا تزعج «حزب الله»، لكن واقعيته السياسية تجعله يحاذر الذهاب إلى اثارة الطائفة السنّية ضدّه وسط متغيّرات اقليمية هائلة تحصل وتتبلور، والعراق مثال واضح في هذا الاطار.
لذلك، قد تكون واقعيته تفرض عليه تهدئة اللعبة لا اشعالها، عبر استيراد مشكلات وأزمات طابعها بنيوي. في هذا الوقت من المنطقي ان تكون القوى السياسية تعمل على رسم مختلف السيناريوهات لمرحلة الفراغ الرئاسي. فرئيس المجلس النيابي والذي سيستعيد زمام المبادرة مع بدء سريان المهلة الدستورية لانتخابات الرئاسة، سينتظر بعض الوقت قبل الدعوة إلى أول جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية.
غالب الظن انّه سيترك انقضاء شهر ايلول بكامله قبل الإقدام على هذه الخطوة، وتحت اعتبارات متنوعة، كمثل إقرار قوانين واصلاحات مطلوبة.
لكن الاحتقان السياسي المتصاعد وتحضير «التيار الوطني الحر» لتحركات في كل المناطق دعماً لرئيس الجمهورية، سيرفعان من مستوى خطورة المرحلة. فلعبة الشارع لا يستطيع احد ضبطها كلياً.
وعلى الضفة الاخرى، وفي حال فشل اقتراح «حزب الله» بإعادة تأمين الثقة للحكومة كما هي، فإنّ ميقاتي سيعمل وفق تفسيرات دستورية تسمح لحكومته بالعمل وفق مبدأ تسيير القرارات المهمة التي لديها طابع مصيري للبلد.
وفي الوقت نفسه، فإنّ الاجتهاد يسمح له كما حصل سابقاً، في إمرار المراسيم التي يجيز الدستور صدورها، من خلال تواقيع رئيس الحكومة ووزير المال والوزير المعني.
ذلك انّ إصدار المراسيم ينقسم إلى فئتين: الاولى والتي تفرض ان تحصل من خلال اجتماع لمجلس الوزراء. والثانية والتي هي بحاجة فقط إلى تواقيع رئيس الحكومة ووزير المال والوزير المعني.
ووفق رأي المرجع الدستوري الدكتور حسن الرفاعي، انّه صحيح انّ الحكومة المستقيلة تعتبر ميتة، الّا انّه ومع الدخول في الفراغ الرئاسي، فإنّ الحكومة تستطيع ممارسة مهماتها تحت قوة «ضرورة استمرار النظام وحمايته وتسيير شؤون الدولة».
لكن هذا الواقع لن يمرّ بهدوء، وهو ما يُنبئ بأنّ التحركات الحزبية التي يحضّر لها باسيل تحت عنوان «توجيه التحية للرئيس عون» وهو يغادر قصر بعبدا، ستهدف إلى رفع مستوى الحماوة، ولم لا، المواجهة في الشارع، بغض النظر عن «الأكلاف» التي يمكن ان تحصل والتي سيجري «إزكاؤها» بخطاب يطاول صلاحيات رئاسة الجمهورية، وبالتالي رفع منسوب المواجهة والحماوة مع رئاسة الحكومة، وفي الوقت نفسه إحراج الجيش اللبناني الذي سيسعى لضبط الشارع ومنع التفلّت والفوضى، خصوصاً أنّ مشهد مواجهات الطيونة لا يزال ماثلاً في الأذهان، لكن قد يعتقد البعض انّ الفوضى في الشارع وبوجه الجيش قد تكون «مفيدة» له.