على مدى ثلاثة عقود ماضية، جرت محاولات عديدة من قبل الحكومات اللبنانية المتعاقبة، وبمقادير ونسب متفاوتة، من أجل تبني مشاريع إصلاحية تسهم في تعزيز سلطة الدولة واستعادة قرارها الحر، وفي بناء إدارة فاعلة ورشيقة في إداراتها ومؤسساتها وأجهزتها، تحترم قواعد الكفاءة والجدارة في إيلاء المسؤوليات العامة لأكْفائها في التعيينات والترقية، واعتماد قواعد المحاسبة المؤسساتية على الأداء، وكذلك من أجل ترشيد الإنفاق العام، باحترام الأولويات الوطنية ذات المردودية الاجتماعية والاقتصادية العالية.
ولقد جرى بعض تلك المحاولات الإصلاحية بالتوازي مع سعي حثيث للحصول على دعم عربي ودولي لمساعدة لبنان على تجاوز مشكلاته المتكاثرة، الداخلية وتلك الناتجة عن الصدمات الإقليمية والدولية.
وبالفعل، حَظِيَ لبنان بما لم يحظَ به بلدٌ آخر في الشرق الأوسط من عناية واهتمام ورغبة في مساعدته من قبل الأشقاء العرب والأصدقاء في العالم، وللبيان تكفي الإشارة إلى المؤتمرات التي عقدت من أجل تقديم العون للبنان بالتوازي مع قيامه بمساعدة نفسه، عبر التزامه بإجراء الإصلاحات السياسية والإدارية والمؤسساتية والاقتصادية والمالية التي كانت تتعاظم حاجته إليها. من ذلك مؤتمر أصدقاء لبنان في واشنطن (1996)، ثم مؤتمرا باريس الأول (2001)، والثاني (2002)، ومؤتمر استوكهولم (2006)، ومؤتمر باريس الثالث (2007)، ومؤتمر فيينا (2008) ومبادرة المغفور له بإذن لله تعالى جلالة الملك عبد لله بن عبد العزيز، لدعم الجيش اللبناني بمبلغ ثلاثة مليارات دولار إضافة لمبلغ المليار دولار التي قدّمها للبنان (2013)، ومؤتمر سيدر (2018).
المفارقة أنَّ تلك المسيرة الحافلة بالنيات الطيبة للتقدم على مسارات تنفيذ الإصلاح الحقيقي، كانت تصطدم باستعصاء شديد ومزمن على الإصلاح، حال دون تحقّقه، ومارستْه مجموعات سياسية وحزبية داخلية وقوى إقليمية، فكان من نتيجته إجهاض معظم تلك المحاولات وتضييع تلك الفرص، حيث سمع اللبنانيون مراراً وتكراراً، ما نقله الأشقاء والأصدقاء: «لن نتمكن من مساعدتكم، ما لم تساعدوا أنفسكم!».
أستعيد هذه المحاولات لأُبيّن خطورة ما وصلت إليه حال إدارات الدولة اللبنانية ومؤسساتها وأجهزتها، حيث باتت طاردة للكفاءات الجديدة، بدلاً من اجتذابها، وحيث ازداد تفشي الممارسات الزبائنية، وازدادت حدّة التشاحن بين معظم الزعماء والسياسيين والأحزاب في التسابق على تحاصص مختلف المواقع في الدولة اللبنانية وفي مراتبها كافة. بذلك لم تعد الإدارة اللبنانية فاعلة، كما يفترض بها أن تكون، وباتت مجموعات متناثرة من مواقع النفوذ التي يسيطر عليها معظم السياسيين والزعماء من أجل السيطرة على قواعدهم الانتخابية، بإثارة المخاوف من المكونات الأخرى في لبنان، وبتقديم الإغراءات والمنافع والخدمات الشخصية لتلك القواعد على حساب الدولة، أملاً في تأبيد تسلّطهم.
ذلك ما أدّى بطبيعة الحال إلى أن بات المواطن اللبناني أسير قواعد الزبائنية السياسية؛ إذْ أصبح حصوله على أي من حقوقه في تسلُّم أي موقع، أو في الحصول على ترقية، أو في تأمين الحد الأدنى من الحصانة له، ليس رهناً بمستوى كفاءته وجدارته أو أدائه أو تفانيه في عمله، بل بمقدارِ ما يتمتع به من رضى أولئك الزعماء والسياسيين، وبمدى استعداده للانصياع لمشيئتهم. ولذلك، فقد باتت الأمور تجري في الإدارة العامة اللبنانية خلافاً لأحكام المادتين 12 و95 من الدستور اللبناني، الذي- وبالمناسبة- لا يخصص أي موقع من المواقع في الإدارة اللبنانية لأي طائفة أو مذهب في لبنان، ولا يحظر أي موقع على من ينتمي لأي طائفة أو مذهب. وهكذا، تحوّلت الإدارات العامة ومؤسساتها وأجهزتها إلى إقطاعات للزعماء السياسيين، وباتت تُعاني من تضخُّم في الحجم ونقصٍ فادح في الكفاءة والإنتاجية، كما باتت تشكّل عبئاً ثقيلاً ومتزايداً على مالية الدولة اللبنانية، وكذلك وسيلة استنزافٍ غير مُجْدٍ لمواردها المتناقصة أصلاً بسبب الأزْمات المتوالية على لبنان.
يجب التأكيد هنا، أنَّ الإدارة العامة في نظامنا الديمقراطي البرلماني اللبناني، في المبدأ كما في معظم الأنظمة الرشيدة، ينبغي أن تكون إدارةً محايدةً، بمعنى أنها للموظفين جميعهم على اختلاف انتماءاتهم الدينية أو المناطقية أو الحزبية، وأنَّ ولاءَها الوحيد والحصري يجب أن يكون للدولة، ولجميع المواطنين دون تمييز أو انحياز. فإدارة الدولة للشأن العام ليست في الأساس حقلاً لجني المنافع الخاصة، أو لحشر طوابير من المحاسيب والمنتفعين. ولكنها، كما يفترض بها، إدارة راقية وصحيحة لتحقيق المنافع العامة. كذلك ينبغي أن تكون خلّاقة ومحفّزة للنمو ولفرص العمل الجديدة في القطاع الخاص، باعتبار أنّ الاقتصاد الناجح يقوم على قطاع خاص نشط ومبادر، تحت رعاية دولة محفزة لتطوره ولنهوضه، كما للحؤول دون ممارسات الاحتكار.
المشكلة تكمن في تعاظم ارتهان الدولة اللبنانية لوصاية الأحزاب الطائفية والمذهبية والميليشياوية، والذي تفاقم جرَّاءَ التنفيذ المبتور والمجتزأ وغير الصحيح للدستور ولاتفاق الطائف بسبب الزبائنية السياسية في الداخل و«الزبائنية للخارج»، أي لإملاءات الوصايات الخارجية، مما جعل الإصلاح أكثر استحالة. ذلك الإصلاح ليس أغنيةً نرددها ونطرب لها، ولا مجرَّدَ نيَّةٍ طيّبة نعلنها- على ما أشرتُ مراراً وحذَّرتُ في حكوماتنا ومجالسنا النيابية- وإنما هو قرارٌ سيادي للدولة في الداخل وبإزاء الخارج.
لا عجب إذاً أنْ تشترط الجهات المعنيَّة (البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي والصناديق العربية والدولية أو الدول الشقيقة والصديقة)، لمساعدة الدولة اللبنانية أن يُصار إلى معالجة هذا التورُّمَ المرضيَّ في حجم الإدارة وحجم أسلاكها وأجهزتها وفي مستوى ونوعية أدائها، مما يحمّل المكلّفين ودافعي الضرائب اللبنانيين عبء كلفتها المتعاظمة.
لقد أردتُ أن أستعيد هذه المبادئ الأساسية للتدليل على مدى أهمية العودة إلى احترامها. وهي المبادئ التي يشدّد عليها الدستور، كما تشدّد عليها قواعد الإدارة الكفوءة والرشيدة والمحوكمة.
كذلك أستعيد هذه القواعد والمبادئ الأساسية في ضوء التوجهات الواعدة الجديدة التي حملها خطاب القسم الذي أدلى به فخامة الرئيس جوزف عون، وتلك التي أدلى بها دولة الرئيس المكلّف نواف سلام في خطاب قبوله التكليف؛ وهي المبادئ والقواعد التي حظيت بتأييد داخلي جامع، وكذلك بتأييد عربي ودولي كبير، والتي يُفْترضُ أن تعتمدها الحكومة العتيدة، ويُصار إلى التقيد بها والعمل على تنفيذها، بما يُسهم في استيلاد فرص واعدة وجدية لاستنهاض لبنان وإخراجه من أتون أزماته.
والحال أيضاً، انَّ العديد من المسؤولين في الدول الشقيقة والصديقة، أخذوا تباعاً وسراعاً يُجدِّدون اهتمامهم بلبنان في ضوء المتغيرات والتحولات الكبرى الحاصلة في لبنان والمنطقة، وهم في الوقت ذاته يبدون حرصهم وحَدْبهم على صيغته الفريدة، وعلى سلامة العلاقة بين المكونات اللبنانية تحت سقف الدستور، وعلى استعادة الدولة اللبنانية لسلطتها الكاملة من جهة، ولكفاءتها ورشاقتها وفعاليتها من جهة ثانية، ولاسيما بعد الانهيارات الشديدة التي أصابت الدولة اللبنانية، وأدخلتها في نفق مظلم وطويل من سوء الإدارة وتبديد الفرص والإمكانات، والابتعاد المستمر عن الالتزام بمعايير الكفاءة والجدارة والاستحقاق والأداء المتميز في الإدارة العامة.
لا بد لي هنا من التوقف قليلاً لأسلّط الضوء على مسألة أساسية؛ وهي أنّ لبنان الكبير تميَّز منذ إنشائه بأنه مساحة غنية لتفاعل المواطنين المنتمين إلى طوائف ومذاهب متعددة، تفاعلٍ حضَّ عليه دستوره الأول والأعراف على مدى عقود، وصولاً إلى الدستور المعدّل حسب اتفاق الطائف.
فالبنية اللبنانية قامت على مبادئ السيادة والاستقلال والحرية والمساواة وإلزامية التعليم للجنسين، وخلقت أرضاً خصبة للابتكار والتميز، وانتشار المدارس والجامعات في مناخ أرضى المسيحيين، كجماعةٍ تأسيسية ومبادرة واضحة، وشارك فيها واستفاد منها المسلمون بالانخراط في اللعبة السياسية الديمقراطية وبنجاتهم لاحقاً من الالتحاق بركب الاستبداد الذي ساد المنطقة. بعبارات أخرى، فإنَّ اعتراف الجماعات اللبنانية ببعضها بعضاً، وتصميمها على العيش معاً متساوين ومتنوعين في كنف دولة واحدة سيدة مستقلة. كل ذلك شكّل سداً منيعاً أمام صعود الديكتاتورية في لبنان، خلافاً للسائد في المنطقة من حولهم، وهو ما ميَّزهم بقدرة فائقة على اجتراح التسويات النبيلة التي هي شرطُ العيش معاً متساوين ومتنوعين. ولنلاحظ أيضاً، أنّ هذا الخيار اللبناني قد جاء في حقبة دولية تميزت بصعود موجات التطرف القومي والنزوع إلى تكوين مجتمعات صافية.
لكن، وفي الوقت الذي كانت تحصل فيه تطورات وتحولات كبرى في المنطقة والعالم، انزلق لبنان على مدى نصْف قرن في موجات من الفوضى والضياع والاحتراب، مع فترات كانت تلوح فيها فرص السلام، والعودة إلى تحقيق النهوض، ينسى خلالها اللبنانيون ما حل بهم، ويذهبون معًا إلى تعزيز مصالحهم المشتركة، حتى إذا عاجلتهم صدمات ونكبات جديدة، أعادتهم إلى أجواء الاختلاف والخصام والاحتراب. أقول هذا لا للحكم على صيغة العيش اللبناني بالفشل، وإنما للقول بأنها الصيغة الأجمل والأنبل والأصعب في آنٍ معاً، وأنها لا تنجز لمرة واحدة، بل هي قيد إنجاز دائم، تماماً كما هو الاستقلال اللبناني.
لقد أثبتت الأيام ان النخب المسيحية، في لبنان وفي بلاد الاغتراب، كان لها دور حاسم في المحافظة على ما تبقى من الكيان اللبناني، سيادةً واقتصاداً وثقافةً وانفتاحاً وتواصلاً مع العالم، وذلك بما أنجزوه وينجزونه في القطاع الخاص، وهو ما يجب الاستفادة من نجاحاته والذهاب إلى التشبيك بينه وبين الدولة، لا سيما في المرافق الحيوية التي تهتم بيوميات المواطنين.
أقول هذا الكلام بلحاظ الهواجس التي بات يكررها بعض المسيحيين في لبنان، بالرغم من إعلان الشهيد رفيق الحريري بأننا أوقفنا العد، ورفع الكثرة الكاثرة من المسلمين شعار «لبنان أولاً». وكذلك بلحاظ الدعوات للنهوض بحصة المسيحيين في مراكز الدولة اللبنانية، ولاسيما في ضوء الانخفاض النسبي في ديمغرافيتهم العددية.
مسألةُ حصة المسيحيين في الإدارة تحديداً، كما هي حصصُ الطوائف الأخرى ملحوظةٌ في المادة 95 من الدستور، ومحصورةٌ في مواقع معيَّنة، ولا تتجاوز الفئة الأولى وما يعادلها أو يوازيها، ريثما يُصار إلى إلغاء الطائفية السياسية بحسب التدرُّج الملحوظ في وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف).
المشكلة الفعلية والعملية الآن ومنذ سنوات تكمن في ضمور حضور سلطة الدولة اللبنانية وتراجع هيبتها، وهي أيضاً في الشحن الطائفي والتدافُع السياسي والمذهبي بين القيادات السياسية والحزبية، بصورة لم نعهدها حتى أثناء الحرب الأهلية السيئة الذكر.
انطلاقاً مما تقدّم، أرى من واجبي أن أبين أمراً أساسياً؛ وهو أنَّ طغيان سردية الأعداد ونسبتها إلى مجموع اللبنانيين على تفكير كل فريق من اللبنانيين وجعله المعيار الأساس للفصل في ما بينهم، بديلاً عن إعلاء شأن التميز والانجاز، ليس إلاّ دخولاً في معركة ديمغرافية خاسرة سلفاً لجميع اللبنانيين ولاسيما للمسيحيين. ويستوي مع هذا الرهان الخاسر، الرهانُ على «فائض القوة» لدى آخرين، وجعله معياراً للفصل.
في المقابل، فإنَّ التحول نحو جعل المنافسة البناءة بين الفعاليات الوطنية، مستندةً إلى تبني معايير الكفاءة والجدارة والاستحقاق والالتزام بها، وفق آليات موضوعية وشفافة وتنافسية، وتقوم على محاسبة مؤسساتية على الأداء، من شأنه أن يعيد الثقة لكل الكفوئين والمميزين في لبنان، وللبنانيين آخرين عاملين خارج لبنان، ويستعيد ثقة اللبنانيين بالغد وبلبنان الوطن، ويعزّز التمسّك بمبدأ المواطنة على أساس قواعد الحق والعدل والمساواة بين جميع اللبنانيين. وعند الالتزام بهذه المبادئ والقواعد، فإنَّ من سيفوزون بتلك المناصب هم الأفعل والأفضل من المرشحين، وبالتالي يكون الرابح الأساسي هو لبنان وجميع اللبنانيين، ولاسيما أولئك الذين تمكنوا من أن يراكموا على مدى السنين الماضية كفاءات ومهارات متميزة.
وأعود مرة أخرى إلى إخوتي المسيحيين اللبنانيين لأقول: يكفي أن ننظر الآن إلى حال القطاعات الأساسية من خارج إدارات ومؤسسات القطاع العام في لبنان، في النقابات المهنية والمؤسسات الجامعية والتعليمية والاستشفائية والمصرفية والاقتصادية والسياحية والصناعية، ولاسيما المؤسسات المتخصصة بالاقتصاد الحديث والذكاء الاصطناعي، يكفي ذلك لنتبيَّن قدرة المسيحيين على مواصلة الدور المميّز والاستثنائي الذي لعبوه ويلعبونه في جميع هذه القطاعات، ويستطيعون أن يستمروا في أداء دورهم بكفاءة عالية. وهذا في صالحهم؛ ولكنه أيضاً وبالتأكيد في صالح المسلمين، ويصبّ حتماً في تحفيز دينامية الاقتصاد والمجتمع اللبناني، وفي النتيجة في صالح جميع اللبنانيين وصالح لبنان الوطن.
كيف يمكن أن يتحقق ما نتمناه ويصبو إليه شبابنا المتطلعون لأن يلعبوا دوراً متميزاً في وطنهم، وليس أن يصبحوا مشروع هجرة دائمة؟
ليس هناك من طريق يمكن سلوكه على مسارات هذا الهدف السامي إلا انخراط جميع المكونات اللبنانية في ورشة التنافس الإيجابي البنَّاء؛ وذلك بالعودة إلى المبادئ والمعايير التي يؤكدها الدستور اللبناني، ويحرص عليها اتفاق الطائف، والقائمة على قواعد الكفاءة والجدارة والاستحقاق والقدرة على الإنجاز. وهي الوسيلة الحقيقية لإطلاق حيويَّةٍ مستجدة في النظام اللبناني وفي الاقتصاد اللبناني، كما هي الوسيلة الوحيدة لترقِّي المجتمع اللبناني بفئاته كافة، والتي تقوم على أسس المنافسة الشريفة والخلّاقة وغير المتحيّزة، ، والتي لا يحتاج فيها أصحاب الكفاءة والجدارة للوساطة، ولا للوقوف على أبواب الزعماء والسياسيين.
بذلك يعود لبنان بلداً طبيعياً، قادراً على النهوض والنمو والتطور، والتلاؤم المستمر مع التحولات والمتغيرات، حيث يتنافس الجميع على أساس من تلك القواعد المبنية على التميّز. ذلك بما يعيد للمواطن كرامته وحقوقه في الحصول على ما هو أهلٌ له، ومن دون أن يهدر كرامته أو وقته أو ماله أو مستقبله. وهذا بالتأكيد ما فيه مصلحة للبنان ومصلحة لجميع مكونات الوطن اللبناني، وما يعبر حقيقة عن أهمية وقيمة العيش الواحد اللبناني.
في ميادين التنمية والترقّي الاجتماعي، ليست الخسائرُ المادية المباشرة والناجمة عن الأحداث هي الأكبر والأدهى، وإنما هي تلك الخسائر الناجمة عن إضاعة الوقت وتبديد الفُرص، وعن التمادي في التقاعس والتواكل.
لقد أضاع اللبنانيون زمناً طويلاً ساد فيه التشظي والخلاف فيما بينهم، وحيث بدّدوا فرصاً لإصلاحٍ حقيقي يعيد للبنان ألقه وتميزه، ولدولته سلطتها الكاملة على أرضها وهيبتها واحترامها لذاتها، ولدستورهم احترامه، ويعيد للبنانيين كرامتهم المهدورة، ويخرجهم من هذا النفق الذي باتوا فيه، والذي قادتهم إليه زعاماتُ الشّقاق والنفاق بمعاركها الدونكيشونية. وهذا ما حمل الكثير من الكفاءات، فضلاً عن مواطنين شرفاء، على الهجرة، ليس المؤقتة فقط، بل الدائمة- لا سمح لله- التي بات يشكو منها كل اللبنانيين ولاسيما المسيحيون.
عودة المسيحيين للتركيز على الدور المميّز الذي تأهلوا له عبر أكثر من خمسة أجيال تؤهلهم لأن ينهضوا بعيداً عن هواجس الأعداد وإحراجاتها، وينهض معهم سائر اللبنانيين، وبهم جميعاً ينهض لبنان.
العمران والازدهار والرقي الحضاري لا تتحقق في عالم تسوده العصبيات والتطرف، بل تحتاج إلى عمل دؤوب في غرس مفهوم المواطنة وقيمها التي تقوم على المساواة والحرية والعدالة والمشاركة في تحمل المسؤولية المجتمعية، وبما يعزز مفاهيم الانتماء، والسعي الجاد لنيل الحقوق والالتزام بتأدية الواجبات.
أعتقد بقوة أنَّ جميع اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، هم «أهل الرجاء» و»لا يقنطون من رحمة لله»، وأنَّ إيمانهم يَقْرِنُ الأملَ بالعمل. بذلك تبقى فرصةُ النهوض متاحةً من جديد، من خلال سلوك المسارات الحقيقية والآمنة لاستعادة مفهوم لبنان العربي، الوطن النهائي لجميع أبنائه، لبنان الرسالة، ولبنان التميز، ولبنان المواطنة القائمة على العدالة والمساواة والحق والقانون والنظام، ودائماً وأبداً لبنان الدولة السيّدة الحرَّة المستقلَّة، التي تشكّل القاسم المشترك لجميع اللبنانيين، لا لبنان الساحة والمنصَّة وصندوقة البريد والأرض السائبة.
لنعلَمْ جميعاً أنَّ أيَّ سعيٍ أو جهدٍ أو بَذْلٍ لا يتَّخذ من قيامة الدولة ذات المواصفات والصلاحيات الكاملة بحسب الدستور بوصِلَةْ له إنّما هو عملُ الزَّارعِ في أرضِ غيرهِ!
ولنعلَمْ أيضاً وخصوصاً أنَّ الفُرَص لا تأتي «غِبَّ الطَّلب»، وأنَّ المُعوَّلَ عليه هو اقتناصُها في أوانها بفطنةٍ وذكاء وفضيلةٍ وطنية.