إنفجر غضب اللبنانيين كما كان متوقعاً. الجوع واليأس لا يرحمان. راحت سكرة الموازنات ووعودها بالإصلاحات الدفترية وأتت الفكرة. فكرة الواقع المرير. فكرة البطالة الزاحفة والدولار المفقود وقد بدأت تتراكم المستحقات على المواطن مع بداية الخريف وما يحمله من فواتير : مدارس، مازوت، أكل وملابس، كلها مسطرة بالدولار.
من أوصل البلاد إلى حافة الإنهيار؟ من يتحمل مسؤولية ما حصل وما قد يحصل غداً ؟ الجواب: الحكومة. وحدها تتحمل المسؤولية، لما قامت، ولما لم تقم به. أين هي اليوم؟ ماذا تحمل من أفكار وتحضّر من تدابير لإطفاء الحريق الملتهب في الشارع. ما حصل بالأمس، والمرشح للتفاقم، يستدعي حكومة تعمل (أوليس هذا شعارها؟) لا تهدأ، لا تنام ولا تستكين، تبتدع الحلول وتستنبط الخطوات الإنقاذية. حكومة تعمل كفريق لا كفرقاء يتقاذفون التهم بينما المركب يغرق.
محاولة “تلبيس” ما حصل لحاكم مصرف لبنان هو بالحد أدنى هروب من المسؤولية. ليس من باب الدفاع عن رياض سلامة وليس أبداً من باب الدفاع عن الإستمرار في سياسة تثبيت سعر صرف النقد التي قادت إلى إنتفاخ القطاع العام، عبر الإستمرار بتمويله من دون شروط وخنق الإقتصاد الحي الذي رزح ولا يزال تحت عبء أسعار الفائدة المرتفعة.
ولكن المصرف المركزي في لبنان وفي أي بلد لا يصنع السياسات الإقتصادية. الحكومات هي من يصنع تلك السياسات. هي المطالبة بإنجاز الإصلاحات وتخفيض الـ 26000 مليار نفقات. هي المطالبة بتحفيز النمو وبإطلاق محركات “سيدر” و”ماكينزي” وكل تلك الخطط التي ما زالت حبراً على ورق.
نعم يجوز إنتقاد سعر تثبيت صرف النقد، وقد يكون للإنتقاد وجه حق، ولكن بالتأكيد ليس من قبل وزراء في حكومة أقرت في بيانها الوزاري وبإجماع أعضائها “الإستمرار بسياسة الإستقرار في سعر صرف العملة الوطنية، باعتبارها أولوية الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي”.
حاول رياض سلامة بأدواته النقدية وهندساته المالية شراء الوقت؛ ربما تستقيم الأمور، ربما يضبط الإنفاق الحكومي، وتشكل الهيئات الناظمة لكي يفرج عن أموال “سيدر”؛ ربما تضبط المرافق غير الشرعية فيبقى الدولار ضمن الدورة الإقتصادية اللبنانية؛ ربما يستفيق بعض من في الحكم لتحييد لبنان عن صراعات الإقليم فينتعش شيء من سياحته وتعود إلى إقتصاده المرهق بعض الإستثمارات من الخارج؛ ربما تسعى الحكومة مجتمعة لترتيب وضعها مع دول الخليج بشكل يمهد لوديعة تدعم العملة الوطنية المتداعية؛ ربما يصار إلى تسهيل المفاوضات التي ترعاها واشنطن لفض النزاع الحدودي مع إسرائيل وتسريع استخراج النفط .
في انتظار كل ذلك حاول حاكم مصرف لبنان شراء بعض الوقت. ولكن في المقلب الآخر،المولج بصنع السياسات مستمر بهدر هذا الوقت أو غير آبه أو مدرك لكلفة الضائع منه.