حسم «حزب الله» أمره، وقرر أن تُعلن تشكيلة الحكومة اللبنانية التي يرأسها حسان دياب بعد 33 يوماً على التكليف، وبعد 85 يوماً من الفراغ الحكومي. التشكيلة العشرينية، بما ومن ضمت من محاصصة حزبية طائفية تمثل فريق الممانعة، مع وجود مباشر لـ«حزب الله» ووجوه تنتمي سياسياً إلى حقبة الاحتلال السوري. بهذا المعنى تعود التركيبة إلى حقبة ما قبل عام 2005، لأنه إذا كانت انتخابات عام 2018 قد «صححت خطأ» ما بعد انتفاضة الاستقلال على حدِّ ما كان قد أعلنه إيلي الفرزلي نائب رئيس البرلمان، فما إعلان هذه الحكومة إلا الرغبة في توجيه رسالة مزدوجة، من ناحية أولى شطب كل المفاعيل الإيجابية التي حققها الاستقلال الثاني بإخراج الجيش السوري من لبنان، ومن ناحية ثانية، تأكيد الطلاق الكامل بين الفريق المتحكم بقيادة نصر الله، و«ثورة 17 تشرين».
مع كلمة دياب إثر إعلان التشكيلة التي جانبت الحقيقة والواقع، لجهة الادعاء أنها «حكومة الاستثناء»، وتضم «وزراء استثنائيين»، وكذلك «من غير الحزبيين»، سُجلت سابقة في تاريخ الحكومات، عندما تداعى الشارع إلى إسقاطها قبل أن تأخذ الصورة التذكارية، وكان جلياً أن دياب نكث بكل الوعود التي أطلقها يوم التكليف، فالرجل المرتاح على وضعه بدخوله نادي رؤساء الوزراء، يبقى الحلقة الأضعف في الحكومة التي شُكِّلت له من أطرافٍ أساسية أوصلت البلد إلى الانهيار والعزلة، لا رافعة سياسية لديه، وليس له حيثية شعبية أو تجربة سياسية يستند إليها، ما يعني أن الصلاحيات الدستورية للموقع البارز في القرار والتنفيذ صودرت قبل التشكيل، بدليل الصراع المضني على المحاصصة، وإلزامه أسماء بعينها، حتى إن رئيس مجلس النواب نبيه بري لم يفصح عن أسماء ممثليه إلاّ لحظة طباعة مراسيم التشكيلة الحكومية.
طرحت الحكومة المعلنة أكثر من مؤشر على نوعية جديدة، في التعايش – التنافس الإيراني – السوري، داخل فريق «الممانعة»، وصوبت على العودة إلى وجود حدود لنفوذ كل فريق، وبدا في لحظاتٍ حاسمة أن تأثير «حزب الله» على حلفائه قد اهتز، في لحظة مفصلية كان الحزب يستعجل تأليف تركيبة حكومية مواتية، لأنها «حاجة ماسّة له لتحصين الساحة الداخلية في ظلِّ الضغوط والمخاطر التي يواجهها بعد مقتل سليماني»! والأمر ليس بعيداً عن أبعادٍ سياسية رسمتها زيارة الرئيس الروسي بوتين إلى سوريا، واستقباله رئيس النظام السوري في قاعدة عسكرية روسية في دمشق، ما أبرز حقيقة ارتماء النظام السوري في الحضن الروسي، الأمر الذي يؤشر إلى تباين ولو محدوداً بين طهران وموسكو حيال لبنان.
وفيما لم يحدث أحد اللبنانيين عن أهلية أي مرشح في حكومة الأقنعة، ولم تسمع أي فكرة أو رؤية عن أولويات هذه الحكومة في مواجهة الانهيار الشامل، وأبعاد العزلة المتأتية عن تصدر «حزب الله» لها، قال الذين نزلوا فوراً إلى الشارع إن حكومة دياب تمثل استفزازاً للساحات وإهانة للثورة التي طالما رددت أن لا شرعية لأي سلطة تناقض مرجعية «17 تشرين»، التي لن تنال ثقة الداخل ولا ثقة الخارج الذي حثّ على قيام حكومة مستقلة عن الأحزاب الحاكمة تكون قادرة على تلبية مطالب الناس وإجراء الإصلاحات الضرورية.
وبعيداً عن المستوى الإنشائي في خطاب التأليف، ثابت حتى اللحظة غياب كلي للبرنامج السياسي، ولا أحد يعرف شيئاً عن ماهية البرنامج الاقتصادي للحكومة، فيما الليرة تنهار، والرواتب لم تعد تغطي احتياجات الأسر لأكثر من أسبوعين، ومدخرات الناس تآكلت، والجوع عضّ بنابه أكثرية المواطنين، والأمر لا يقتصر على الأرياف، بل أيضاً داخل المدن، حيث تحولت الأحياء الشعبية إلى أحزمة بؤس.
بهذا السياق، بدا أن الرد الفوري على الأرض من جانب المحتجين يهدف إلى تجنيب البلد الانهيار الزاحف مع تركيبة سلطوية قرارها الفعلي ليس على طاولة مجلس الوزراء، بقدر ما هو بين يدي السيد نصر الله، وما يمثل، والنائب اللواء جميل السيد، وارتباطاته، وبالتالي قد تكون حكومة اللجوء إلى لغة القمع والعنف مع المحتجين، وكان لافتاً أن وزير الداخلية الجديد امتدح أداء القوى الأمنية، وهو الأداء الذي تسبب في يومين بسقوط نحو 500 جريح، واقتلاع عيون بعض الثائرين، الأمر الذي أثار موجة انتقادات داخلية ودولية واعتبره نقيب المحامين «تخطياً واضحاً لكل معايير ضبط الأمن»، وتبلور توجه قانوني لمقاضاة الجهات الرسمية المسؤولة عن العنف المفرط واستخدام السلاح المطاطي وعن قرب (!!)، كل ذلك في محاولة لمنع تنفيذ محاولات تدفيع الفئات الأكثر ضعفاً ثمن الانهيار، وبالتالي المضي في تأمين الحماية لنهج الكارتل المصرفي الذي «شرّع» تحويل اللبنانيين إلى متسولين على أبواب المصارف!
عشية مرور 100 يوم على بدء ثورة الكرامة، لم يخرج مسؤول واحد يخاطب وجع الناس وقهرهم، بل يستمر التجاهل والعناد، وجاء إعلان حكومة ينم عن الرغبة بالعزل والإقصاء، ومثل هذا السلوك يُعدُّ وصفة من شأنها أن تفاقم الغضب وتعمق الثورة. لكن بعيداً عن كل النقاش حول العنف والقلق المشروع مما يمكن أن يؤدي إليه، فالأمر الواضح أن المنتفضين هم الأكثر حرصاً على بقاء بيروت لؤلؤة بين المدن، وهم لم ولن يتخلوا عن السلمية، وهذا الجانب تؤكده المشاركة النسائية الكثيفة، كما مشاركة الأسر، فالناس خسرت الكثير، وأهم ما لديها رهانها على انتصار الثورة التي اخترقت بسلميتها كل شرائح المجتمع، ومستمرة بسلميتها من أجل استيلاد حكومة إنقاذ حقيقية للبلد من الانهيار الذي دُفع إليه! وما الغضب الشبابي – الشعبي إلاّ التعبير المشروع في الدفاع عن النفس، أشعله نهج طويل من الإهانات وانتهاك الكرامات.
إن أداء السلطة بعد «17 تشرين»، كما الحكومة التي تم تشكيلها، سيكون المسؤول الوحيد عن الغضب الذي يسود لبنان وكل اللبنانيين، وثابت أن من يهدد بهزِّ السلم الأهلي هو مَن يتوسل الفوضى الأمنية لإنقاذ نظام المحاصصة الطائفي الذي تموضع «حزب الله» في مقدمة حُماته، في حين أن ثورة الكرامة أنهت لأول مرة بتاريخ البلد نتائج الحرب الأهلية، كما بلورت مطالبها التغييرية، وأكدت أن من أوصل لبنان إلى الانهيار ليس جهة مؤهلة للإنقاذ، ولسان حال الثورة يقول: منعتم أبسط الحقوق من عمل ومياه وكهرباء واستشفاء وتعليم، وضاعفتم الفقراء وحولتم اللبنانيين إلى متسولين، وكوّنتم ثروات فلكية، وبعيون زجاجية تدعون إلى مكافحة الفساد!!
مرحلة جديدة دخلها لبنان يستمر معها ثوار «تشرين» يشهرون الحق بوجه الباطل، ولا تراجع، ولن تنجح محاولات دفع الثورة إلى العنف المباشر، فالقناعة عارمة بأن سلمية الثورة ستوقف مسيرة التهديم وتعيد بناء الدولة، وتبقى بيروت «زهرة لا تموت»!