وضَعت القوى السياسية اللبنانية خططها لمرحلة ما بعد قبول استقالة الرئيس سعد الحريري. صحيح أنّ الجدل يتمحور حالياً حول الظروف التي أحاطت بإعلان الحريري استقالته والتي لا تزال تحوط بوضعه الشخصي، لكنّ هذا الجدل لا يتعدّى الحدود الإعلامية، لأنّ الرؤية السياسية تجاوزَته بحيث إنّ القوى السياسية باشرَت إعادةَ تموضعِها لمرحلة ما بعد الاستقالة.
الحريري الذي يتواصل في معظم الأحيان مع الشخصيات السياسية اللبنانية عبر «الواتس آب»، ومن خلال رسائل مقتضَبة جداً، ومرّات قليلة من خلال اتّصالات هاتفية قصيرة، لم يُصدر موقفاً يردّ فيه على عاصفة التساؤلات الموجودة في بيروت. كان في إمكانه حسمُ موقفِه وتأكيده أقلّه من خلال تغريدة قصيرة، لكنّه آثرَ الغموضَ والصّمت ربّما لأنه كان لا يزال ينتظر شيئاً ما أو تحرّكاً غربياً، وخصوصاً أميركياً.
لكن ومع الموقف الذي أصدرَه الرئيس الأميركي دونالد ترامب والذي أيَّد من خلاله التحرّكَ الذي تقوم به السلطة السعودية، قد يكون بدا للحريري أنّ سلوكه السياسي السابق أضحى بلا أفق، وهو ما بات يتقاطع مع الكلام حول حزمِ أمرِه لجهة إصدارِ موقفٍ جديد يؤكّد فيه استقالته، إمّا من خلال زيارة لساعات إلى بيروت، أو من خلال لقاءٍ إعلامي ويُرفق معه تقديم استقالته خطّياً.
وعند حصول ذلك، فإنّه لا بدّ من الاعتبار أنّ الحريري نفَّذ انعطافةً سياسية حادّة وفقَ أجندةٍ وبرنامج جديدين متناغمين مع الرؤية السياسية للمملكة العربية السعودية. وهو ما يعني أيضاً سقوط التسوية السياسية التي سمحَت بوصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا.
وخلال الأسابيع الماضية، وتحديداً منذ زيارتَي رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل إلى السعودية، دار همسٌ عن أنّ الخريطة التحالفية للانتخابات النيابية المقبلة لن تكون امتداداً لواقع التعاون السياسي داخل الحكومة، لكنّ سقوط خريطة التحالفات هذه لن يعنيَ أبداً سقوط التسوية التي تمّ تركيزُها منذ أكثرِ مِن عام.
هذه التسوية التي وقفَت على سيبةٍ ثلاثية: «التيار الوطني الحر» ومِن خلفِه الساحة المسيحية، تيار «المستقبل» ومِن خلفِه السعودية، و«حزب الله» ومن خلفِه إيران، وحملت عناوين عدة أبرزُها تحييد لبنان عن النزاعات الإقليمية بضمان سعودي وإيراني. ومِن المنطقي أن يؤدّي كسرُ أحدِ القوائم الثلاث لهذه السيبة إلى سقوط التسوية التي وَقفت عليها.
وخلال الأشهر الماضية، أكثرَ الوزير السعودي ثامر السبهان من تغريداته الهجومية، وأكثرُ الجوانب إثارةً كان تركيزه على التعايش الذي يَرتضيه الحريري مع «حزب الله». يومها دار كلامٌ في الصالونات المغلقة للحريري مفادُه أنّ السعودية إذا أرادت مواجهة «حزب الله»، فلتقُم بذلك لوحدها. وقيل إنّ هذا الكلام وصَل إلى مسامع السعوديين.
لكنّ هذا كلّه أضحى مِن الماضي، والأكيد أنّ الحريري سيَعمد خلال الساعات المقبلة إلى تأكيد موقفِه من الاستقالة، بعدما اقتنَع بتبنّي برنامج سياسي جديد يَرتكز على مواجهة «حزب الله».
وهذا السلوك الجديد ستُواكبه عقوباتٌ اقتصادية أميركية على «الحزب»، وأخرى خليجية، قد تصِل في نهاية الأمر إلى التلويح بسحبِ الودائع وطردِ لبنانيّين.
فالسعودية التي عاقبَت قطر برزمةِ تدابير قاسية وجَّهت يومها إشارةً إلى أنّها أضحَت تنتهج أسلوباً حازماً، بخِلاف سياستها التاريخية.
ولكن، وفي الشأن اللبناني، قد لا تُبادر في المرحلة الأولى إلى التلويح بسحبِ ودائعِها أو طردِ عائلاتٍ لبنانية خشية أن تؤلّبَ جميعَ اللبنانيين ضدّها، فيما المقصود «حزب الله» وحلفاؤه.
وفي انتظار كلام الحريري، فإنّ لبنان يعيش مرحلةً انتقالية، فيما السلطات اللبنانية وكذلك «حزب الله» يَربحان الوقتَ لترتيب خطواتهما اللاحقة بعد الضربة المباغتة التي حدثت.
والواضح أنّ السعودية أعلنَت الحرب على «حزب الله»، في وقتٍ كان السبهان معبّراً في كلامه حول أنّ لبنان والسعودية في حالة حرب، ومطالِباً بردع «حزب الله»، مع الإشارة إلى أنّ الوزير السعودي يتواصل هاتفياً مع عددٍ كبير من السياسيين اللبنانيين يومياً، ولا شكّ في أنّ أياماً صعبة جداً تنتظر لبنان.
صحيفة «النيويورك تايمز» وصَفت قرار الاستقالة بأنّه خطير وستكون له تبعات أكبر مِن قدرة لبنان على تحمّلِها. فيما شبكة «فوكس نيوز» الأميركية اعتبَرت أنّ بسقوط الحكومة لم يعُد «حزب لله» ممثّلاً في السلطة، ما يعني أنّ أيّ تدخّلٍ ضدّه لن يكون ضربةً ضد الدولة اللبنانية.
وفي هذا الكلام تهديد واضح ويتقاطع مع اعتبار صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية استقالة الحريري مؤشّراً إلى أنّ أيّ تصعيدٍ عسكري ضد «حزب الله» سيَجد قبولاً واسعاً لدى تل أبيب، وأنّ الحرب في حال حصولها تستفيد منها روسيا.
لكنّ أوروبا لا تبدو على الموجة نفسِها، ما يُعزّز الانطباع بأنّ هذه التهديدات تدخل في إطار التهويل لا التنفيذ. وتحدّثت صحيفة «لوموند» الفرنسية عن سيناريو أكثر شدّةً ويتضمّن عقوباتٍ على «حزب الله»، في وقتٍ يُبدي الديبلوماسيون الأوروبيون خشيةً مِن الحسابات المتهوّرة بسبب قدرات «حزب الله» العسكرية، وبالتالي احتمال تكرار نتائج عام 2006.
وفي المقلب الآخر، يستعدّ «حزب الله» للمواجهة السياسية، وهو يدرك أنّ المرحلة ستكون صعبةً وطويلة، ولكنّه يستعدّ لها. وفي هذا الإطار يمكن إدراجُ اللقاء الطويل الذي عُقِد بين الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، إضافةً إلى الاتصال الذي أجراه الرئيس الإيراني حسن روحاني برئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
في الأسبوع المنصرم، وبعد زيارة مستشار مرشد الثورة الإيرانية علي أكبر ولايتي للحريري، صرّح الأوّل من على باب السراي الحكومي أنّ إيران تحمي استقرارَ لبنان، وهو ما يعني أنّ ضرب نفوذِها سيُهدّد الاستقرار في لبنان والذي يشكّل خطاً أحمر لدى واشنطن.
فبَعد أن يؤكّد الحريري استقالتَه، سيبدأ رئيس الجمهورية المشاورات لتسمية رئيسٍ جديد للحكومة، ويتّجه «حزب الله» وحلفاؤه إلى تسمية شخص آخر غير الحريري، على أن يتمّ تأمين غالبية نيابية له تسمح بالبدء بتشكيل حكومة ستكون حكومة مواجهة بلا شكّ، خصوصاً أنّ «حزب الله» يعارض حكومة التكنوقراط، لأنّ المرحلة السياسية تواكبُها حكومة سياسية.
وهنا يصبح المشهد أمام خيار من اثنين: فإمّا تنالُ الحكومة الثقة وتندفع في تثبيتِ واقعٍ جديد، او تفشل في حيازة الغالبية النيابية ولكن يتسلّم أعضاؤها الوزارات لتصريف الأعمال، ويبقى أهمّها على الإطلاق وزارة الداخلية. وبغَضّ النظر عن الضغوط التي ستحصل وستكون ناجمةً عن العقوبات، فإنّ وزير الداخلية سيَعمد للدعوة إلى إجراء الانتخابات النيابية وفق القانون الحالي، والذي يتمسّك به «حزب الله»، ويَعتقد كثيرون أنّه قادر على تأمين الغالبية النيابية له.
وفي المقابل، فإنّ تيار «المستقبل»، ووفق «الأجندة» الجديدة سيعمل على تعطيل هذه الانتخابات في كلّ الحالات. فحتى لو بقيَت وزارة الداخلية تُصرّف الأعمالَ مِن خلال نهاد المشنوق، فإنّ الوزير سيَرفض تحمُّلَ أوزار هذه العملية في ظلّ حكومةِ تصريف أعمال، إضافةً إلى أنّ الموضوع المالي يشكّل عائقاً، وكذلك الخلافات حول قانون الانتخاب لجهة البطاقة البيوميترية والتسجيل المسبَق وغيره…
وحتى في حال وجود وزير داخلية آخر، فإنّ المعارضة ستصبح من جانب آخر. وعندما أشار الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله في كلمته الأخيرة إلى وجوب عدم الربط بين لقائه بكوادر مسؤولي «سرايا المقاومة» وبين إعلان استقالة الحريري، فإنّ الجهات الديبلوماسية قرأته بمثابة تأكيد الربطِ، وبالتالي التحذير، خصوصاً مع إشارته إلى أنّ عدد مسؤولي «سرايا المقاومة» يبلغ الألف، ما يَعني أنّ العدد الفِعلي لعناصره يتجاوز العشرة أو الخمسة عشر ألفاً، مع العِلم أنّ معظم هؤلاء هم من الطائفة السنّية.
وعلى الرغم من هذه الصورة الملبّدة، إلّا أنّ الأوساط الديبلوماسية المراقِبة تبدو واثقةً من أنّ اهتزاز الاستقرار السياسي لن يعرّضَ الاستقرار الأمني، وأنّ ما يحصل ضغوطٌ مضادّة يمارسها «حزب الله» في مواجهة الضغوط التي يتعرّض لها. وبالتالي فإنّ الواقعية السياسية التي تَميَّز بها تضعُ ضوابط للمرحلة الصعبة، خصوصاً أنّه يَعتبر نفسَه منتصراً في سوريا، ما يَجعله ملزَماً بإبراز مخالبه.