بعد الإفطار الرمضانـي فـي قصر بعبدا أمس، ستنطلق اليوم الإستشارات النيابية الـمُلزمة من أجل تسمية رئيس جديد للـحكومة اللبنانية. بعض الكتل جاهرت بـموقفها وسـمّت الرئيس سعد الـحريري، مثل «التيار الوطني الـحر» وحركة «أمل» وطبعاً «تيار الـمسقبل»، وأخيـراً «القوات اللبنانية»، وهؤلاء مع حلفائـهم يصل عددهم إلى أكثر من 77 نائباً، وهناك كتل وأفراد مستاؤون من الـحريري بسبب تـحالفاته الإنتخابية، ويتهيّـبون من التقارب الـحاصل بيـن «تيار الـمستقبل» و»التيار الوطنـي الـحرّ»، ولكنهم يفضّلونه على سواه، مثل «الـحزب التقدمي الإشتـراكي» و»الـمردة»، وربـما «حزب الكتائب» إذا إرتأى عدمَ البقاء فـي الـمعارضة.
إذاً، نستطيع القول، مبـروك للرئيس سعد الـحريري، ولكنّ الـمشكلة ليست بتسمية رئيس الـحكومة ولا بعدد الأصوات التـي ستسمّيه، بل بتسمية أعضاء الـحكومة وتوزيع حقائبها وبرنامـجها الوزاري.
هل يكفي أن يقوم بعض رؤساء الكتل بزيارات لبعضهم البعض كي تصطلح الأمور وتتقارب الأفكار والتوجّهات ويقتنع الـجميع بأحجامهم الـحقيقية التـي أفرزتـها الإنتخابات؟ أم سيبقى هناك دوماً مَن يقول إنّ تـمثيله الشعبـي أكبـر من تـمثيله النيابـي وإنه يستـحق وزارات سيادية وخدماتية تبيض ذهباً وسلطةً ونفوذاً؟ كل الكتل، وخصوصاً الكبيـرة منها، مشغولة هذه الأيام فـي نفخ أحجامها كي تـحصل على الوزارات الدسـمة، أمّا الصغيـرة منها، فـهي تلملم ما إستطاعت من الـمستقليـن الضائعيــن، الذين يبـحثون عن مظلات تـحميهم، كي يُـسمح لـها ولـهم بدخول جنّة الـحكومة.
صحيح أنّ الـحياة الـديـموقراطية توجب القبول بنتائج الإنتخابات وإن لـم تكن مثالية وبقانون غيـر مثالـي، ولكن للأسف الشديد، فـي هذا الزمن الرديء، أصبحت أحجام الكتل تـحدّد أعدادَ الـحقائب الوزارية ونوعيّتها، لا رجاحة العقل والكفاية والرؤيا ونظافة الكفّ، ولا برنامج عمل الـحكومة أو بيانـها الوزاري، ولا مدى إلتـزام جـميع الوزارء بالبيان الوزاري والعمل على تطبيقه. يقول فولتيـر «أفضل حكومة هي تلك التـي يوجد فيها أقلّ عدد من الأشخاص عديـمي الفائدة».
معظم الـحكومات بعد «الطائف» كانت إئتلافية ووفاقية بتـركيباتـها، وكذلك الأمر بعد إتفاق «الدوحة»، إلاّ مرة واحدة، بعدما حصل الإنقلاب على الرئيس سعد الـحريري، حيـن كان يلتقي الرئيس الأميـركـي باراك أوباما فـي البيت الأبيض، وتـمّ تشكيل حكومة من لون واحد برئاسة الرئيس نـجيب ميقاتـي، ولكنها مثل غيـرها من الـحكومات السابقة، فشلت فشلاً ذريعاً فـي الـحفاظ على الأمن والإستقرار، ولـم تـحقّق أيّ إنـجاز فـي ملفات الكهرباء والـمياه والطرقات والإتصالات والنفايات، ولا فـي تـحفيـز الإقتصاد والـحدّ من البطالة، ولا فـي وقف الـهدر واجتثاث الفساد.
بالإجـمال، فـي الأزمات الكبيـرة والـحروب والظروف الإستثنائية، تلجأ غالبية الدول إلى تشكيل حكومات «وحدة وطنية» كي تتـحمّل كل الأطراف والأحزاب السياسية مسؤولية اتـّخاذ القرارات الصعبة والـحرجة التـي تـهدّد الوطن، أمّا فـي الظروف العادية وفـي البلدان الـمستقرّة والراقية، الأكثرية تـحكم والأقلية تعارض وتـحاسب، وهذه تُعتبـر قمّة الديـموقراطية، لأن من دون مـحاسبة ومراقبة لا ديـموقراطية ولا إنتاجية ولا شفافية.
الآن، وفـي خضمّ الأزمات التـي يعيشها وطننا، من أزمة النـزوح السوري الكثيف على أرضنا والذي بات يـهدّد وجودنا وكياننا، خصوصاً بعد تزامن صدور القانون رقم 10 فـي سوريا والقانون رقم 49 فـي لبنان، إلى أزمة البطالة والتدهور الإقتصادي والـمعيشي واهتـراء البنـى التحتية ووصول الـمديونية إلى مستويات مـخيفة، إلى أزمة انسحاب الولايات الـمتحدة من الإتّفاق النووي مع إيران، إلى ردّة الفعل الأولى، ولا نعرف ماذا سيليها، على نـجاح «حزب الله» وحلفائه فـي الإنتخابات بعقوبات أميـركية وخليجية، وتزايد الـمخاوف من تداعياتـها السياسية والإقتصادية… كل ذلك وغيـره يـحتـّم على دولة الرئيس الـمُكلّف، وبالتنسيق والتعاون مع فخامة رئيس الـجمهورية، العمل على تشكيل حكومة وفاقية تستطيع التصدّي لـهذه الأزمات، وأن يـُخرجا التشكيلة الـحكومية من خانة الـمحاصصة والكيدية والتعطيل، ويُعيدا الـحياة لـمفهوم السلطة التنفيذية، بكل ما تـحمل من مهام ومسؤوليات، فيستجيبان لأمانـي الشعب وطموحاته، ويقدّمان تشكيلة حكومية قوية ومتجانسة ومتضامنة، لا ثلث ضامناً فيها لأحد، ولا إقصاء أو إلغاء لأيّ فريق تـحت أيّ ذريعة أو حجّة، حكومة وحدة وطنية جامعة ومرتكزة على الـتخصّص والكفاءات ونظافة كَفّ أعضائها، قادرة على مواجهة تـحدّيات الـمرحلة، وتلبّـي تطلّعات اللبنانييـن فـي الإنتاجية والشفافية وفـي تثبيت سياسة الـحياد عن الصراعات الإقليمية والدولية.
إنّ خطابَ القسم الذي شكّل نقطة مـحوَرية فـي الـحياة السياسية اللبنانية، يصلح فـي أيّ وقت أن يكون هو نفسه البيان الوزاري للحكومة، فلا لزوم للشعارات والشعارات الـمضادة، ولا لزوم للنكايات والتـحدّيات، لأنّ الـمقدّسات التـي لا يـجوز الـمساس بـها هي ثلاث: سيادة لبنان، ووحدة أرضه، ووحدة شعبه، وكل ما زاد على ذلك، هو للقهر والإستفزاز والتسلّط، ولا لزوم للأطماع والأنانيات ولشرَه الفوز بكل شيء، ولا لزوم للوعود البـرّاقة الـمستحيلةْ التنفيذ، يكفينا بعض الـحكمة والتواضع والتضحية والعودة إلى الـجذور اللبنانية الأصيلة، يكفينا الإستقرار الأمنـي والإصلاح الإجتماعي والإقتصادي، يكفينا أن تبدأ الـحكومة بإطلاق نـهضة إقتصادية تغيـّر إتـّجاه الـمسار الإنـحداري، فتوفّر فرص عمل للشباب، تكفينا معالـجة مسألة النـزوح السوري عبـر تأميـن العودة السريعة، يكفينا تطبيق اللامركزية الإدارية وتـحسيـن البنـى التـحتية والـخدماتية والـمعيشية، يكفينا تعيــيـن هيئة قضائية لـمكافحة الفساد، وتفعيل أجهزة الرقابة وتـمكينها من القيام بكامل أدوارها، يكفينا فصل النيابة عن الوزارة والبدء بتطبيق قانون «من أين لك هذا». يقول كونـفوشيوس «فـي ظلّ حكومة فاضلة الفقر عار، وفـي ظلّ حكومة سيّئة الغنـى هو العار».
نعم، يكفينا يا فـخامة الرئيس ما ورد فـي خطاب القسم لتكون الـحكومة الـجديدة عن حقّ حكومة العهد، فيفتـخر بـها سيد العهد ويفتـخر بـها رئيس الـحكومة ويفتـخر بـها الشعب الذي انتظرها منذ أكثـر من ربع قرن.