عملياً، حكومة لبنان وُلِدت في باريس، على أيدي «مجموعة الدعم»، ولكن «على العضم»، كما يُقال في لغة تُجّار العقارات المبنية. فـ»أصدقاء لبنان»وفَّروا على صديقهم الصغير الانتظار المكلف، وحدّدوا له مواصفات الحكومة الجديدة، ووضعوا برنامجها بدقَّة، خصوصاً في ما يتعلق بالفساد، أي بالشقّ الاقتصادي- المالي- الإداري… ولكن أيضاً بالشقّ السياسي. وهكذا، لم يعُد أمام «الوكلاء» في لبنان إلّا تطبيق «الكاتالوغ» الباريسي، و»تركيب» حكومة. فهل تكون من «أولاد السلامة»؟
حصل ما كان بديهياً: لا مساعدات ستأتي من المجتمع الدولي إلى لبنان بعد اليوم، مهما تدهورت أحواله. عليه أولاً أن يلتزم الإصلاحات الموعودة، لا من زمن مؤتمر «سيدر» في نيسان 2018، بل من زمن انطلاق مؤتمرات باريس في تسعينيات القرن الفائت.
في المؤتمر، علت أصواتٌ تسأل عن عشرات المليارات الضائعة منذ ربع قرن في لبنان، ومنها مساعدات قدَّمتها «الأم الحنون» لـ»ولدِها» الذي طالما أبلغ اليها أنّه يحتاج إلى دعمها ليبقى على قيد الحياة… وأنّه سيصبح راشداً ويتكلّ على نفسه… لكنه لم يفعل!
إذاً، انتهت مرحلة «التفهُّم» الفرنسي للبنان. وللصراحة، ليس الفرنسيون هم الذين بادروا إلى «قطع الحَبْل» للبنان، بل الأميركيون. هم طلبوا من باريس وسائر الأوروبيين والعرب بألّا يصرفوا قرشاً على لبنان بعد اليوم، إذا كان مصراً على البقاء في الفساد، فالتزم الجميع طبعاً.
الرسالة الأقوى التي يمكن استنتاجها من مؤتمر باريس، هي أنّ سقفه جاء أعلى بكثير من سقف المطالب الفرنسية والأوروبية في الأيام الأولى من الانتفاضة، علماً أنّ سقف 17 تشرين الأول كان أعلى بكثير من السقف الذي وافق عليه الفرنسيون في مؤتمر «سيدر».
هذا يعني أنّ الضغط على لبنان ما زال يتصاعد في السنوات الأخيرة، وأنّ المعنيين لم يصدِّقوا أن «لا مزاح» بعد اليوم… وإلّا لكانوا تجاوبوا مع راعي «سيدر» بيار دوكان الذي تعبَ كثيراً، على مدى عامٍ ونصف العام، لإقناعهم بالإصلاح، ولكن عبثاً.
واليوم، لا يستطيع أي من أركان السلطة أن يغسل يديه من جرائم الفساد. فهؤلاء، على الأقل، منغمسون فيه في السنوات الثلاث الأخيرة، أي خلال «سيدر» وقبله وبعده. وعندما يحاول أي طرفٍ سلطوي أن يعترض على «إقصائه» من الحكومة الجديدة «لضرورات النظافة»، فإنه يجد نفسه عاجزاً عن إظهار «نظافته»…
وعلى الأرجح، ستتضامن الطبقة المستهدفة بـ«النظافة»، متناسية خلافاتها «الصغيرة»، لتتمكّن من الحؤول دون إقصائها عن الحكومة المقبلة. وهذه الطبقة هي نفسها التي تضامنت للتآمر على الإصلاح المطلوب في «سيدر»، و«زحَّطت» دوكان، وغشَّت في أرقام موازنة 2019 وورقة الإصلاح الوهمية بعد الانتفاضة. وهي تُطلق اليوم وعوداً خادعة في موازنة 2020… إذا بقي البلد!
مع كل يوم تأخير، يزداد تشدُّد المجتمع الدولي في التعامل مع هذه الطبقة. وإذا كان هناك مَن يعتبر أنّ الإدارة الأميركية هي الأكثر راديكالية بين سائر الشركاء الدوليين، فإنّ فساد هذه الطبقة هو الذي يمنح واشنطن كل مبرِّرات التشدُّد. ولو وافق أركان السلطة على السير بإصلاحات «سيدر» لما تفجَّرت الانتفاضة، ولما صعَّدت القوى الخارجية في شروطها.
الآن، جاء موعد الاستحقاق. انتهت المهلة المعطاة للبنان. ففي باريس، قرّر المجتمع الدولي ألاّ يقول للبنانيين بعد اليوم ما عليهم أن يفعلوا. لقد قام بدفع لبنان إلى الهدف غصباً عنه. وقرّر عنه تركيبة الحكومة الإصلاحية وبرنامجها… تحت طائلة التهديد بعواقب وخيمة.
ووفق «الكاتالوغ» الباريسي للبنانيين: مطلوب منكم تشكيل حكومةٍ غير سياسية، أو ببعض التمثيل السياسي «الناعم» كأقلية. وأما القرار فيجب أن يكون في أيدي المستقلين. وعلى هذه الحكومة أن تتبنى برنامجاً حازماً لا هوادة فيه للإصلاح والشفافية. وعلى اللبنانيين أن يتحمّلوا التضحيات لإمرار هذه المرحلة.
ولأنّ لبنان بات متروكاً لمصيره في مواجهة «الانهيار الفوضوي»، كما تسمّيه «مجموعة الدعم»، فإنّه سيجد نفسه ملزماً تطبيق «الكاتالوغ»، ما دام ذاهباً إلى الأسوأ من دونه. والقوى السلطوية تدرك المخاطر الآتية، ولكن، على رغم ذلك، هل تلتزم هذه المرّة أم تواصل السير نحو الانتحار؟
في النماذج السابقة، كان هاجس القوى السلطوية «عدم إغضاب» القوى المانحة. وللتذكير، الحكومة الحريرية المستقيلة تعثَّر تأليفها 9 أشهر حتى ولدت في كانون الثاني 2018، قسراً، لعدم تفويت مؤتمر «سيدر» في نيسان، لأنّ فيه «روح الإحياء» للبنان، ولا بديل منه. وقياساً إلى ذلك، يمكن توقُّع أن يتجاوب أركان السلطة مع «الكاتالوغ»، مع محاولةٍ لتحسين شروطه.
بناءً على ذلك، يمكن القول: هناك فرصةٌ لولادة حكومةٍ وفقاً لهذا «الكاتالوغ»، هذا الشهر. ومن هذا المنطلق، تكون كل المناورات الجارية بين أركان السلطة مجرد جزء من عملية التجاذب لبلوغ التسوية الإجبارية.
هذا ما يعنيه قول الحريري إنّه يتنازل عن رئاسة الحكومة فيما هناك «فيتو» يمنع أي مرشح آخر. كما يعنيه كلام الوزير جبران باسيل في مؤتمره الصحافي أمس. فالإعلان عن رفض المشاركة في الحكومة و»قلب الطاولة» ليس سوى نموذج مماثل، أو مقابل لما فعله الحريري.
فهل استسلم الجميع للوصفة الفرنسية للنجاة؟ وهل تكون حكومة «الكاتالوغ» هدية الأعياد، أم يمضي لبنان إلى مصيره، إلى «الانهيار الفوضوي»؟