يعيش اللبناني هذه الأيام ويده على قلبه خوفاً من انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وعينه على ما يجري في العراق، تحسباً لتمدّد عاصفة الغضب العراقية إلى الأراضي اللبنانية، في ظل هذه الصراعات المحتدمة بين الأطراف الإقليمية.
وما يزيد من قلق اللبنانيين وتخوفهم المشروع، هو هذا الإمعان، من قبل الأطراف السياسية المعنية، بالتجاهل لمصالح البلاد والعباد، والانغماس حتى قمة الرأس في لعبة المحاصصة في تأليف الحكومة، على خلفية حسابات واهية في الربح والخسارة، والمعاندة المستميتة على وزارة من هنا، أو صفقة من هناك!
لم تنفع تنبيهات المصرفيين، ولا تحذيرات الخبراء الاقتصاديين، ولا حتى إنذارات مؤسسات التصنيف، والتي تلتقي جميعها على اعتبار أن الاقتصاد اللبناني وصل إلى حافة الخطر، بعد التراجعات المستمرة في مختلف القطاعات الإنتاجية، وانخفاض حجم الصادرات، وزيادة العجز في الميزان التجاري، وتباطؤ تحويلات اللبنانيين من الخارج، وتوقف تدفق الرساميل الاستثمارية من دول الخليج، وتأثير كل ذلك السلبي المتزايد على الدخل الوطني.
ورغم كل هذه الأوضاع الدراماتيكية وتداعياتها الموجعة على الحالة الاجتماعية، وعلى مستوى لقمة عيش اللبناني، ما زالت الطبقة السياسية تتناحر على مغانم السلطة ومكاسب الصفقات، تاركين مزاريب الهدر على عواهنها، وعاجزين عن وضع الخطط الإنقاذية اللازمة، قبل فوات الأوان، والوصول إلى ساعة الاستحقاق المحتوم، على نحو ما حصل في مأساة الازدحام في المطار.
لا ندري ما ينفع هذا الطرف السياسي أو ذاك، وخاصة الأطراف المحسوبة على العهد، لا سيما التيار الوطني الحر، إذا، لا سمح الله، وقعت الواقعة ووصلنا إلى الانهيار، والجميع يتلهى بالخلافات على الأحجام والحقائب، والبلد يشكو ويئن بسبب هذا الفراغ في السلطة التنفيذية؟ ألا يدرك جهابذة السياسة أن لبنان لم يتعافَ بعد من مضاعفات الفراغ الرئاسي الذي استمر، على عينك يا تاجر، وبكل فجاجة، ثلاثين شهراً، تعطلت خلالها المرافق العامة، وتهاوت الإدارات الرسمية، واهتزت قواعد الدولة، وضاعت معها آلية القرار، بعدما أصبح كل وزير في الحكومة الثلاثينية يضع نفسه في مقام رئيس الجمهورية؟
ثمة حقائق، هي في الواقع من نوع البديهيات في النظام اللبناني، يحاول بعض الأطراف الاستقواء والقفز فوقها، وإيجاد قواعد جديدة بعيدة عن نصوص الدستور، وروح الميثاق الوطني، من خلال ممارسات مشوّهة وصولاً إلى أعراف مشبوهة، لا تخدم منهج تعزيز التلاحم الوطني بين اللبنانيين، الذي يلتزم به رئيس الجمهورية.
أولى هذه الحقائق، أن التعاون والانسجام بين رئيسي الجمهورية والحكومة ضرورة لا مناص منها، لتفعيل مؤسسات الدولة وتعزيز قدراتها، وتحقيق النهوض المنشود اقتصادياً وإنمائياً ووطنياً.
ثاني تلك الحقائق، يقضي بضرورة مراعاة أحكام الدستور، ومبدأ الفصل بين السلطات، وتأكيد حرص كل طرف على صلاحيات الطرف الآخر، والحفاظ في الوقت نفسه على أسرار الدولة، وخاصة عند حصول تباين بالآراء والاجتهادات بين الطرفين، بحيث يتم التكتم عليه، والاستمرار في البحث عن النقاط التي تقرّب وجهات النظر، وتساعد على تدوير الزوايا وصولاً إلى الاتفاق المنشود.
ثالث تلك الحقائق، أن الدستور أناط برئيس الحكومة مسؤولية تشكيل الحكومة، بالتشاور مع رئيس الجمهورية طبعاً، ولكن أبقى رئيس الحكومة وحده مسؤولاً عن تحمل تبعات التأليف والأداء، تحت طائلة مواجهة مجلس النواب، والحصول على الثقة، لأنه في حال سحب الثقة من الحكومة ورئيسها، يغادر الأخير موقعه في السلطة، ويبقى رئيس البلاد في موقعه، بعيداً عن مفاعيل أي مساءلة.
رابع تلك الحقائق، أن التجارب علمتنا أن أي طرف سياسي أو حزبي مهما بلغت قوته، ومهما كان شعوره بفائض القوة واقعاً، لا يستطيع أن يتفرّد بالقرار، أو أن ينوب عن الآخرين، في المعادلة الوطنية. وفي كل مرة حصل مثل هذا الخرق، كانت قواعد التوازنات الداخلية تهتز ويتعرّض السلم الأهلي للخلل.
ومن هذه الحقائق ثمة سؤال يُقلق اللبنانيين هذه الأيام: هل نحن بصدد تأليف حكومة منتجة وتأمين الانطلاقة المنشودة للعهد، أم أن ما وراء الأكمة ما وراءها، والمطلوب أهداف أخرى دستورياً ووطنياً؟