ما إن أعلن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري مساء الرابع من تشرين الاول الجاري، ان الحكومة قد ترى النور في غضون عشرة ايام، حتى تبدّل المشهد في الاسواق المالية اللبنانية، وشهدت البورصة في اليوم التالي ارتفاعا في معظم الاسهم المتداولة. فهل يؤشّر ذلك الى وجود امكانية للخروج من المأزق المالي بسرعة غير اعتيادية في حال تمّ تشكيل الحكومة؟
في السياسة، تبدو احتمالات التجميل والتمويه اكبر بكثير مما هي عليه في الاقتصاد. المواقف السياسية قد تتبدّل بين ليلة وضحاها، وتتبدّل معها الرهانات والحسابات وحتى المشاعر. هذا الأمر لا ينطبق على الاقتصاد، لأن الأرقام لا ترحم، ولا تتبدّل بالسرعة نفسها التي تغيّر فيها السياسة اتجاهاتها، من دون أن يعني ذلك انتفاء الرابط العضوي بين الاثنين.
في موضوع تشكيل الحكومة وأهميته في دعم الاقتصاد، لا بد من التذكير بأن الأزمة المالية القائمة حاليا، لم تبدأ مع الفراغ الحكومي، ولن تنتهي بانتهائه بالتأكيد. وردة الفعل الايجابية التي أظهرتها الاسواق حيال احتمال وجود حلحلة في التاليف، شهدت مثلها في محطات سياسية كثيرة، من ضمنها التفاعل الايجابي الذي طرأ لدى انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية، بعد طول فراغ في الموقع الرئاسي الاول. كذلك، تفاعلت الاسوق ايجابيا مع ولادة الحكومة الاولى برئاسة الحريري، والذي عاد الى السلطة في اجواء توافق بين الرئاسة الاولى والثالثة، أوحت بأن شهر العسل سيمتد طوال فترة العهد. وهذا الامر منح نفحة ايجابية للوضع الاقتصادي، معنوياً على الأقل.
رغم المناخ السياسي الايجابي نسبيا في ذلك الوقت، ورغم الارتياح العام الذي ساد لفترة، كانت الأرقام تسجّل المزيد من التعقيدات، ولم يكن كافيا أن تكون الاجواء السياسية طبيعية، لكي يتم الانقاذ المالي والاقتصادي، وهذا ما دلّ عليه تطوّر حجم الدين العام، على سبيل المثال لا الحصر. ويعتبر الدين العام المؤشر الاساسي في الأزمة، ليس لأنه كفيل بايصال الدولة الى الانهيار فحسب، بل لأنه المؤشر الاساس على الاتجاهات التي تسلكها السلطة في السياسة المالية والاقتصادية. هذا المؤشر لم يبدّل مساره التصاعدي في ارتفاع العجز، وكل ما قيل عن اصلاحات عملت عليها لجنة المال النيابية، تبين انها ظلت حبرا على ورق. وعلى طريقة تعديل الدستور مرات عديدة، تحت مسمّى لمرة واحدة فقط، سجل رئيس اللجنة في محضر مجلس النواب الذي انعقد في جلسة تشريع الضرورة، ان تجاوز أرقام الموازنة والاصلاحات، هو لمرة واحدة فقط!
لكن كل هذه المواقف والاجتهادات لا تغيّر الارقام. وقد تبيّن ان العجز الذي رسمته موازنة 2018 عجز وهمي، وان العجز الحقيقي بدأ يتظهّر بوضوح، وسيكون اكبر من عجز 2017 بنسبة لا تقل عن 20%. وسنُنهي العام الجاري على دين عام يقارب الـ 87 مليار دولار. وستكون نسبة نمو الدين قد اقتربت من 9% سنويا، وهي نسبة مخيفة لن تخفّف من وطأتها وجود حكومة او الفراغ الحكومي.
يتفق الجميع على ان الأزمة المالية والاقتصادية برزت معالمها قبل الفراغ الحكومي الذي يُحكى عنه اليوم. وكل المؤشرات المُقلقة كانت قائمة من قبل الفراغ، ولو ان تظهيرها اليوم يبدو أوضح. وللتذكير، فان رفع اسعار الفوائد لم يتم في خلال الفراغ الحكومي. وبالمناسبة، الاشارات توحي بأن اسعار الفوائد قد تستمر في الارتفاع اكثر في الايام المقبلة، لأن المصارف التي تأخرت عن دخول السباق على الودائع بالليرة، قد تضطر الى دخوله لاحقاً. والتحذيرات الدولية من وصول الوضع المالي الى حافة الانهيار كانت قائمة قبل الانتخابات النيابية التي جرت في ايار الماضي. ومحاولات الانقاذ الدولية من خلال عقد مؤتمر سيدر جرت قبل هذا الموعد، وفي ظل حكومة العهد الاولى.
كل ذلك، يعني ببساطة ان الأزمة المالية والاقتصادية تعكسها الأرقام، ولا يمكن ان تبدّلها المواقف ولا تشكيل الحكومات. وما يجري اليوم، مخيف، لأن الاقتصاد بكل مرافقه وصل الى حال من الجمود، وباتت الجهود محصورة في الحفاظ على قيمة النقد الوطني. وهي معركة مصيرية تستحق التضحية لكي يكسبها البلد، لكنها معركة مُكلفة جدا، وسيظهر حجم التضحيات فيها بالأرقام بعد فترة وجيزة. وقد وصلنا الى مرحلة نسمع فيها من يقول ان الجمود الاقتصادي القائم اليوم، مطلوبٌ وقد يكون في جانب منه متعمّداً، لخفض نسبة خروج العملة الصعبة من البلد.
اشارة اضافية الى أن ميزان المدفوعات، وهو المؤشر الاكثر حساسية في الوضع المالي اللبناني، يسجل عجوزات متفاقمة، حتى لو تجاوزنا الخلاف في احتساب هذا العجز القائم بين مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي، وتبنّينا طريقة المركزي في الاحتساب. رغم ذلك، سنكتشف ان هذا العجز يقترب من منطقة الخطر الشديد، ولم يعد متاحا تنفيذ هندسات مالية للتصدّي لهذا العجز.
المعطيات والأرقام تعكس حجم الأزمة. والحكومة الجديدة اذا رأت النور غدا، لن تؤثر في هذه الارقام لأكثر من بضعة ايام، تشهد فيها مؤشرات الاسواق المالية تحسناً، ومن ثم تعود الى الاتجاه الانحداري الذي تسلكه منذ سنوات. إلا اذا كانت الحكومة، وهي معبر إلزامي نحو الانقاذ، ستشهد بداية تغيير حقيقي في النهج والممارسة، عندها قد يتبدّل المشهد، وقد تبدأ الأرقام في التبدّل أيضا