عندما كلِّف الرئيس سعد الحريري تشكيلَ أولى حكومات عهد الرئيس ميشال عون، قال بحكومة وحدة وطنية جامعة لكلّ الأطراف. معنى ذلك أنّ باب الشراكة فيها مفتوح للجميع ولا فيتو على أحد.
لكنّ عملية التأليف التي انطلقت تحت عنوان الشراكة بدأ يصيبها شيء من الارتباك، وغرقت في تعقيدات سمّيت «تفاصيل»، أبقت على الوحدة الوطنية مجرّد عنوان، وبدأ التوزيع التمثيلي والحقائبي يوحي وكأنّ هناك من العاملين على خط التأليف، من اعتقد أنّ العهد الرئاسي الجديد أفرز رابحين وخاسرين، ويحاول إسقاط معادلة الربح والخسارة على التأليف، فذهب إلى التربّع في المنطقة العليا، وصار يقارب حركة التأليف من موقع الذي يعطي ويمنّ على الآخرين، يأخذ لنفسه ما لا يعطيه لغيره، لا بل يرفض أن يعطيه لغيره، يفضّل طرفاً على طرف، ويسدّ نهَمه على حقائب وزارية وكأنّه مديون له على موقف دعم «يتيم» أو وقفة سياسية يَعرف الجميع أنّ ظروفاً فرَضت الذهابَ إليها وليس القناعة.
وفي المقابل، تارةً يضع «فيتو» على طرف، وتارةً أخرى يتحفّظ على مشاركة هذا الطرف، وتارةً ثالثة يقبل به على مضض ولكن مع رفضِ أن تكون لهذا الطرف شراكة وحضور فاعل في الحكومة.
منطق الربح والخسارة هذا، يعكس مبالغةً في التقدير، أو هو ينمّ عن قراءة غير واقعية للواقع اللبناني، وثمّة نصائح مباشرة وغير مباشرة أسدِيت من «أصدقاء» بأنّ هذا المنطق لا يستقيم مع الوضع الرئاسي المستجدّ ولا مع الظروف الحقيقية التي أوصَلت إليه.
ولا مع التوازنات المحكوم فيها البلد، وعليه، لا بدّ من التواضع في نهاية المطاف، بهذه الحالة فقط يدخل التأليف مسارَه الطبيعي ويوصل إلى الحكومة المرجوّة بمواصفات الشراكة والوحدة الوطنية، وإلّا فإنّ التعقيدات التي سُمّيت «تفاصيل»، ستَستفحل وستظلّ راسخة في طريق الحكومة وكذلك في طريق العهد الرئاسي الجديد.
وطالما إنّ الحكومة المنوي تشكيلُها، ليست حكومة رابح وخاسر بل هي حكومة جامعة، فمعنى ذلك ألّا تكون هناك حصصٌ وزارية متورِّمة لطرف، وحصصٌ هزيلة لطرف آخر، بل حصص موضوعية تنسجم مع الحجم الطبيعي لكلّ طرف، فلا وزير بالزايد ولا وزير بالناقص. وفي هذا السياق، ثمّة خلاصة بالحصص الحقيقية التي يجب أن ينالها كلّ طرف، وضَعها عاملون على خط التأليف.
تضع هذه الخلاصة معياراً للمشاركة ينطبق على كلّ كتلة نيابية تضمّ ثلاثة نواب فما فوق. ولاحتسابِ الحصة التي ينبغي أن تنالها، يؤخَذ عدد الكتلة ويُضرَب بحجم الحكومة المنوي تشكيلها (24 وزيراً)، ثم يقسّم الحاصل على العدد الإجمالي الحالي للنواب أي 126، باعتبار أنّ الرئيس ميشال عون قد فَقد نيابته، وكذلك النائب روبير فاضل الذي خسر نيابته بالاستقالة.
أمّا الكسور التي تحصل فتُحتسب (1) إذا كانت تزيد عن الصفر فاصلة خمسة، ولا تُحتسب الكسور التي هي دون الصفر فاصلة خمسة. بذلك تصبح الحصص كما يلي:
– كتلة النائب سليمان فرنجية (3 نواب) = 3×24÷126= 0,57، النتيجة هنا فوق الصفر فاصلة خمسة ، يعني أنّ حصتها وزير واحد.
– كتلة الرئيس نبيه بري (14 نائباً) = 14×24÷ 126= 2,66 ، يعني ان حصتها 3 وزراء.
– كتلة القوات اللبنانية (8 نواب) = 8×24÷ 126= 1,52، يعني ان حصتها وزيران.
– كتلة «حزب الله» (13 نائباً) = 13×24÷ 126= 2,47، يعني ان حصتها وزيران.
– كتلة النائب وليد جنبلاط (11 نائباً) = 11×24÷126= 2,09، يعني ان حصتها وزيران.
– كتلة الرئيس سعد الحريري (31 نائباً) = 31 ×24÷126= 5,9 ، يعني ان حصتها 6 وزراء.
– تكتّل الإصلاح والتغيير (20 نائباً) = 20×24÷126= 3,8، يعني أنّ حصته 4 وزراء.
– كتلة حزب الكتائب (5 نوّاب) = 5×24÷ 126= 0,95، يعني أنّ حصته وزير.
أمّا تمثيل سائر الكتل والنواب فتحكمه اعتبارات وتفاهمات ومقايضات ومبادلات بالتراضي بين هذا الطرف وذاك. وأمّا حصة رئيس الجمهورية فابتدعَها ميشال سليمان، وتُخالف البند (1) من المادة 53 من الدستور، التي تُجيز لرئيس الجمهورية أن يترَأس مجلس الوزراء عندما يشاء، وتَمنع عليه المشاركة في التصويت. ومنع المشاركة في التصويت لا مباشرة عبره شخصياً، ولا بشكل غير مباشر أو بالواسطة عبر وزراء.
حتى الآن ما زالت هذه الحصص والأحجام تشكّل النقطة الخلافية الأساسية التي تعترض مسارَ التأليف، إضافةً إلى الفيتوات التي تُرفع في وجه بعض الفرقاء والتبخيس من قيمة وحجم ثمثيلهم والإصرار على حجب وزارات أساسية عنهم.
ولا يبدو في الأفق حتى الآن ما يؤشّر إلى أنّ أذهان بعض العاملين على خط التأليف قد مالت، أو هي بصَدد أن تميل نحو المقاربة الموضوعية. بل إنّ أداءَها حتى الآن يَشي بشيء من التعاطي الثأري مع أطرافٍ بعينها.
وإذا كان هذا المنحى – إن استمرّ- يلحِق الضرر بالحكومة التي لم تولد بعد، ويُراد لها أن تكون جامعة، إلّا أنّ هذه الحكومة تُجلد من أهل بيتها وقبل ولادتها، عبر محاولة إفقادها معنوياتها منذ الآن واعتبارِها حكومةَ كيف ما كان، لها مهمّة محدّدة هي إجراء الانتخابات النيابية، ومن دون أن يتمّ التركيز جدّياً على مهمّتها الجليلة الكامنة في إعداد هذا القانون، بالإضافة إلى المهام الأخرى التي ستجد نفسَها مضطرّةً على مقاربتها، وعلى وجه التحديد الملفّات الحياتية والاجتماعية والاقتصادية والمالية.
ومهما قيل فإنّ الناس ينظرون إليها بأنّها حكومة العهد الأولى ويعلّقون الآمال عليها، خصوصاً أنّ رئيس الجمهورية عدَّد في خطاب القسَم مجموعة أولويات حياتية ملِحّة ولا تحتمل التأجيل.
يتسلّح أصحاب نظرية «الانتقالية» بمقولة أنّ تشكيل الحكومة يأتي على أبواب استحقاق نيابي بعد أشهر قليلة، لكن حتى ولو قيل إنّ مهمتها محصورة بالشقّ الانتخابي وإعداد قانون جديد للانتخابات، فهي إنْ نجَحت في إعداد هذا القانون تنتفي عنها صفة الانتقالية التي تلصَق بها، وعدم الفعالية، بل تصبح حكومةً تأسيسية لنقلِ الحياة السياسية في لبنان من مرحلة إلى مرحلة جديدة.
وإذا كان التبرّؤ المسبَق من حكومة لم تولد بعد، يعطي إشارةً سلبية مسبَقة أيضاً إلى عدم إنتاجيتها، فهل مجرّد القول بأنّ حكومة العهد الرئاسي الجديد، ليست هي الحكومة الحقيقية للعهد بل حكومة ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة، ينطوي على هروب مسبَق من نتائج عجزها، كذلك على توقّعات باكتساح نيابي على مستوى كلّ المناطق بما يفرز واقعاً جديداً تَحكمه أكثرية في مكان وأقلّية في مكان آخر.
لكنّ نظرةً موضوعية إلى الواقع السياسي والانتخابي في لبنان، توصِل إلى خلاصة أنّ الانتخابات المقبلة إن جرَت في موعدها على أساس قانون الستّين، قد تأتي نتائجُها نسخةً مكرّرة عن الواقع الحالي الذي يَحكم البلد، وكلُّ القوى ستعيد إنتاجَ نفسها على ذات القواعد الطائفية والمناطقية والمالية والمصلحية والسياسية مع فروقات صغيرة هنا وهناك.
حتى إنّ أيّ قانون جديد، ولو أدخِلت فيه «النسبية» وإن بشكلٍ جزئي، قد لا يكون قادراً على إحداث نقلة نوعية وصورة نيابية جديدة. وبالتالي ستفرز الواقع السياسي والنيابي هو هو، وسيكتشف القائلون بأنّ الحكومة الحالية انتقالية بلافعالية، أنّ الحكومة التي ستتشكّل بعد الانتخابات المقبلة هي نفسُها بذات التوزيع التمثيلي ويمكن بنفس الأسماء.
والفضل هنا طبعاً للشعب اللبناني العظيم الذي يصرخ من الأزمات ويعاني منها ويهدّد وينزل إلى الطرقات، لكنّه في لحظة الانتخابات النيابية تدفعه غرائزُه وليس رغبته بالتغيير، إلى إعادة إنتاج الواقع السياسي كما هو.
ولكن بفارق وحيد هو أنّ التي سُمّيت حكومة انتقالية قبل الانتخابات، هي ذاتها ستسمّى بعد الانتخابات حكومة العهد الحقيقية أو حكومة التغيير، وما إلى ذلك من أسماء وأوصاف.