التعامل مع الخطة المالية للحكومة له أيضاً رؤية سياسية، بصرف النظر عن لغة الأرقام والمعطيات المالية والاقتصادية، وفكرة الخطة في ذاتها. ففي النهاية لا يمكن التعامل معها من غير الأخذ بالواقع السياسي لأي حكومة وبلد
لا يناقش سياسيون الخطة المالية للحكومة بحرفيتها العملانية فحسب، ولا سيما أن خبراء اقتصاديين أدلوا بدلوهم في ما تقدمه، وفنّدوا إيجابياتها وسلبياتها. هناك قراءة سياسية للخطة، بالمعنى العملي والواسع، انطلاقاً من سؤال: هل يحتاج لبنان الى خطة مالية جامدة، أم ان الأوضاع الاستثنائية تحتاج الى مشروع متحرك؟
منذ التسعينيات والجدل بين رؤيتين لواقع البلد الاقتصادي والمالي. حين تزعّم الرئيس الراحل رفيق الحريري المشروع الاقتصادي للبنان، لم تكن الرؤية التي وضعها، سواء ثبت فشلها في السنوات اللاحقة أم العكس، رؤية جامدة محصورة بعناوين وبنود، لا يمكن القفز فوقها. كان الحريري، بحسب عارفيه، يرفض ما يسمى «خطة»، بالمعنى الذي يُمنح عادة هوية «يسارية»، ولا سيما أن بعض المنظرين الليبراليين كانوا يعتبرون أن اعتماد سياسات الخطط المقفلة، أسهم في انهيار دول الاتحاد السوفياتي الذي كان أول من اعتمد الخطط الخمسية. فالخطة المكتوبة كنص جامد، تخالف في العام والخاص مبدأ الحريات والمتغيرات الاقتصادية المرنة.
وتطبيقاً على الواقع المحلي، لا يمكن تجاوز التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في منطقة كالشرق الأوسط ولبنان بكل ما يحمل من عناصر متغيرة ومتفجرة أحياناً كثيرة. رغم الظروف التي كانت قائمة حينها وبعض سنوات التهدئة في ظل الوجود السوري بعد الطائف، ظل الإطار العام للمشروع الاقتصادي، على كثافة المعترضين عليه، قابلاً للتحول والتبدّل، وفق المعطيات المستجدة، فيتحول الى نقاش عام تتبلور من جرّائه مشاريع جديدة. ولم تخرج الحكومات المتتالية اللاحقة عن هذا الإطار، من دون أن يعني ذلك أن مشاريعها كانت تحمل عناصر ملائمة وجيدة في معظم الأحيان، لكنها سارت على المنوال نفسه الذي سلكته حكومات الحريري الأب: من خلال مشاريع وبرامج عمل وأفكار تخص وزارات ومؤسسات، لمعالجة قضايا اقتصادية وإنمائية ومالية واجتماعية، ومن خلال لجان شكلت ولم تعمل، ودراسات بعضها أنتج بأكلاف عالية أكثر من مرة، وبعضها رمي من دون إلقاء أي نظرة عليها، أو استبعد بعد شهور من طرحها للبحث، والاستعانة باستشاريين آخرين، حتى خلال العهد نفسه، كما حصل مثلاً مع دراسة ماكينزي.
اليوم تقدم حكومة الرئيس حسان دياب خطة بالمعنى الواسع والمطاط، لكنها في الوقت نفسه تعبر عن إطار ضيق وجامد، من دون الأخذ في الاعتبار حقيقة المتغيرات التي حصلت في لبنان، ليس منذ 17 تشرين الأول وحسب بل قبله بشهور كثيرة. يكفي السؤال، ليس عن الكلفة المالية وشروط صندوق النقد، بل أبسط من ذلك: هل الخطة الحالية تعاملت مع البنود الاقتصادية والمالية بخلفية ما يمكن أن تخلقه أزمة صحية – اجتماعية مكلفة بشراً ومالاً، في الشهور المقبلة كأزمة كورونا؟ أو أي مصير يمكن أن تلاقيه هذه الخطة لو طرحت قبل أسابيع من انفجار الوباء العالمي؟ واستطراداً، هل ان تحديد الخطة ببرنامج زمني، خمس سنوات، يلحظ أي تطور دراماتيكي داخلي، بدءاً بنتيجة الانهيار المالي وانعكاسه على الفئة الأكثر تضرراً بانهيار سعر الليرة، وصولاً الى انهيار القطاعات الزراعية والصناعية والبطالة وانفجار العنف الاجتماعي. لا يمكن التكهن بأن خطة كالتي وضعت، خلال مهلة زمنية قصيرة، بعقلية المستعجل لتقديم جرعة إيجابية ليس إلا، قياساً الى الضرورات التي يجب معالجتها، تناولت حقيقة كل ما أفرزته تظاهرات 17 تشرين الاول وما كشفته من حقائق تتعلق بالتركيبة الحاكمة والهدر والفساد. هذا إذا حصرنا الاهتمام بالداخل من دون الالتفات الى أي معطى إقليمي، كما حصل في حرب 1996، وتأثيرات القصف الإسرائيلي على قطاع الكهرباء كمثل أوّليّ، وحرب تموز 2006 ومن ثم الحرب السورية، وما خلقته من سلبيات على القطاعات اللبنانية. حتى الآن، ظهر من خلال الإطار العام لرؤية الحكومة أن هناك أمرين لا يمكن المس بهما: الحفاظ على مواقع أساسية في التركيبة القائمة مالياً واقتصادياً، وحماية كل ما يتعلق بالرؤوس المسؤولة عن المال العام. أبعد من ذلك، لا يتعلق الأمر بخطة تلامس المتغيرات الاجتماعية والشعبية الملحة للسنوات المقبلة. وإذا كانت الحكومة لم تتمكن من وضع خطة واضحة وعادلة لصرف مساعدات للفقراء، فهل هي قادرة على التعامل مع خطة مرنة على مستوى مواجهة الانهيار الحتمي الذي يعيشه لبنان؟ ولا يجوز هنا نسيان عاملين: أعداء الداخل للحكومة ومشروعها أكثر من أصدقائها، وبعضهم من أهل العهد والبيت. أما العامل الثاني فهو أن هذه الحكومة لم تبدأ مع العهد، بل إن عمرها مرتبط بإجراء الانتخابات النيابية، بعد عامين، إن لم يكن أقل، إذا أعيد فتح ملف الانتخابات النيابية المبكرة. وهذا يعني أن أي خطة إصلاحية من هذا النوع «الطموح» لا يمكن أن تؤتي ثمارها مبكراً. وإذا «قلّعت» الحكومة في ظرف مناسب، وخضعت «سياسياً» لصندوق النقد، فإن مصيرها يبقى معلقاً على حبل حسابات داخلية مرتبطة بوقائع نيابية ورئاسية مقبلة. وهذه الحسابات ستكون في صلب نقاش أي خطة تلزم سياسياً كل الطامحين حكومياً ورئاسياً، لأنها ستكون إما نعمة لهم أو نقمة، ولا خيار ثالثاً بينهما.