في الظاهر يبدو أنّ التجاذب حول تشكيل الحكومة العتيدة أمرٌ طبيعي مع بداية عهد جديد، ولكن حقيقة الأمر أبعد من ذلك. فالمعركة القائمة على تشكيلها سببُها تصفية حساب مع الماضي القريب ومع ذلك الاتفاق الذي أوصَل إلى انتخاب رئيس جديد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وضعُ ضوابط مستقبلية آنيّة وطويلة الأمد لكيفية مشاركة وتمثيل الجماعات اللبنانية في السلطة التنفيذية.
من هنا فإنّ السؤال الذي كان يطرحه اللبنانيون والمتابعون للتفاصيل اللبنانية؛ هل يستحقّ عمر الحكومة القصير كلَّ هذا الشَدّ والتذاكي وهذه الشهية التي لا تشبع للحصول على حقيبة وزارية؛ أصبح وراءَنا، إذ إنّ هنالك أموراً جوهرية أخرى تَعوق تشكيلَ الحكومة الجديدة، وبالتالي الانطلاق الفعلي للعهد المأمول منه الكثير… ولكي نُجيبَ عن الأسباب الحقيقية لمأزق التشكيل ينبغي مراقبة تحرّكات كلّ مِن فخامة رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ورئيس مجلس النواب لإدراك حقيقة الاشكال، ففي يد كلّ واحد منهم جزء من بازل التأليف:
صحيح أنّه ينبغي الاعتراف أوّلاً بأنّ الرئيس المكلف، وقياساً مع التجارب السابقة في تشكيل الحكومات منذ العام 2005، لم يستنفد لتاريخ كتابة هذه الأسطر الكثيرَ من الوقت لتشكيل حكومته وأنّ الفرصة ما زالت أمامه.
وفي حال استبعاد المعطى الخارجي بوجهَيه السلبي والإيجابي، هل نستطيع القول إنّ الرئيس مكبَّل باتفاقات ثنائية أو أكثر لا يمكنه التخلّص منها بسهولة وهي تعوق حركتَه؟ أم أنّه يتّبع سياسة تتّكل على أن يتعب الجميع لكي يخرج عليهم بحكومة أمر واقع يراعي فيها بعضَ الآراء والمطالب التي لن يمكنَه الخروج منها؟
في المختصر، فإنّ تصرّفاته لا يمكن أن تريحَ المستعجلين بإمكانية صدور المراسيم قريباً. وبالتالي، إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه، يجب أن يوضح للرأي العام الأسباب الحقيقية التي تؤخّر تشكيلَ حكومةٍ أيامُها معدودة وهدفُها الأوّل والأخير إجراء انتخابات نيابية في موعدها الدستوري، لكي لا يتحمّل وزرَ الإحباط الذي سيعاني منه اللبنانيون.
في المقلب الآخر، يُدرك رئيس المجلس النيابي حجمَه وعلى هذا الأساس يدير المفاوضات في عملية التأليف، خصوصاً أنّه مطمئنّ إلى أنّه سيحصل في النهاية على ما يريد من هذه الحكومة، ولكنّه ينظر بعين الريبة إلى أمور عدة من الممكن أن تصبح قاعدةً عند تشكيل الحكومات في حال السماح بها ولو لمرّة واحدة… وتتلخّص بالتقاسم المستقبلي للنفوذ طوال العهد الجديد سواء في التعيينات أو في توزيع الحصص عند تأليف الحكومات المستقبلية، وصولاً إلى من يتحكّم بالثلث الضامن فيها، من هنا، فإنّ حركته أبعد من مجرّد عتَب على تخَطّيه في الانتخابات الأخيرة، وإنّما هي في إطار النزاع المستمرّ على المشاركة في السلطة، والتي لم ينظّمها تطبيق اتّفاق الطائف.
وأخيراً تبدو حركة فخامة الرئيس هجوميّة متحرّكة، على عكس خطوات وتحرّكات الرئيس المكلف، فهو مع إدراكه لحدود صلاحياته، خصوصاً تلك التي حدّدها الطائف، إلّا أنّه يدرك تمام الإدراك بأنّه يستطيع الاتّكال على شعبية واسعة وكتلة نيابية وازنة تَضمن له الكثيرَ من حرّية التحرّك ومن التشدّد في المطالبة بقلبِ العديد من المفاهيم التي كانت سائدةً عند تشكيل الحكومات، إلّا أنّه ومع ذلك كلّه يعاني من عوارضِ المَثل القائل «اللهمّ اكفِني شرّ أصحابي أمّا أعدائي فأنا كفيل بهم»… وعليه الخروج سريعاً من هذه الدوّامة.
إنّ الاستعراض أعلاه يؤكّد أنّ تشكيل السلطة التنفيذية في لبنان هو بازل معقّد لا يمكن حلّه إلّا بتضافر وتقارُب كلّ القوى التي في يدها جزءٌ من الصورة حتى ولو كان صغيراً وثانوياً، لكي لا نبقى في المربّع الأوّل من التشكيل والتأليف.