باتت حكومة الرئيس تمام سلام في حاجة الى مَن ينقذها من نفسها. تتهيّب الاستقالة مقدار عجزها عن ادارة خلافاتها وممارسة الحكم. لم يعد وزراؤه 24 رئيساً او قطعة من رئيس فحسب، بل يستعجل انقسامهم تحولها 24 حكومة
ليست المرة الاولى يتبادل افرقاء حكومة الرئيس تمام سلام عض الاصابع. ولن تكون الاخيرة. كذلك التلويح بـ»الخيارات المفتوحة» التي لن تقود حتماً الى الاستقالة. لا كتل حكومة سلام في وارد الخروج منها، ولا رئيسها بالذات يجازف في احتمال كهذا. في ما مضى قال سلام، اكثر من مرة، انه لا يسعه التخلي عن مسؤولياته الدستورية في ظل حال استثنائية تشكو من شغور رئاسة الجمهورية. ما يجبهه داخل حكومته اليوم ليس الاشتباك الاول، ولن يكون بالتأكيد الاخير.
اذا صحّ ان تقاليد البيت يحملها الابناء من الآباء، لم تختبر المصيطبة على مرّ تاريخها مجازفات خطرة. ورث ريمون اده عن والده الرئيس صلابة الثبات، ووليد جنبلاط عن والده شغف الرهانات المكلفة، والرئيسان بشير وامين الجميل عن والدهما حماسة الخيارات. الا انه لم يعرف عن الرئيس صائب سلام المجازفة بالحكم: ان يرحل في وقت يقتضي ان يبقى، او ان يبقى عندما يحين أوان رحيله. آخر تجربة له في السلطة تختصر مغزى التصرّف.
عندما عزف عن ترؤس الحكومة في 21 تشرين الاول 1974، عزا سلام الاب السبب ــــ وهو يدرك وطأة رفض دمشق تكليفه وتلويحها بالأسوأ وتحضّرها لافتعال ازمة حكم ــــ الى معارضته توزير طوني ابن الرئيس سليمان فرنجيه. لكن الخلاف السياسي مع الرئيس كميل شمعون لم يحل دون استقالته في تشرين الثاني 1956 وكان وزيراً، ومع الرئيس فؤاد شهاب في تشرين الاول 1961 وفرنجيه في نيسان 1973 وكان رئيساً للحكومة.
ذات مرة استقال الرئيس رشيد كرامي «الى الشعب»، لا الى رئيس الجمهورية
تفضي التجربة تلك الى اكثر من سبب للتريث وتبسيط التعامل مع «الخيارات المفتوحة»، دونما التقليل من عبء الخيبة والامتعاض والغضب الى حد القرف:
أولها، ان الغطاء الفعلي لاستمرار حكومته يستمده من الدعمين الاقليمي والدولي اكثر منه تماسك كتلها التي سلمت، منذ اليوم الاول لتأليفها، بأن ما يجمع في ما بينها ربط نزاع ــــ وهي العبارة المأثورة لتيار المستقبل ــــ ثم في ما بعد الادارة الجماعية للشغور الرئاسي. ليس قليلا الدعم الدولي الذي يحظى به سلام، وخصوصاً منذ الشغور، على انه واجهة الشرعية الدستورية للبنان. لمس هذا الموقف في معظم جولاته العربية والدولية منذ زيارة نيويورك في ايلول 2014. وهي المرة الاولى يقف رئيس للحكومة متحدثا نيابة عن الرئاسة الشاغرة.
منذ تكليفه في نيسان 2013، خبر سلام وزر الضغوط الاقليمية والدولية على دفعتين: اولى حتى عشية تأليفه الحكومة في شباط 2014 لتسهيل اصدار مراسيمها، وثانية قبل ثلاثة ايام من انقضاء مهلة الشهر لوضع البيان الوزاري بعدما لوح بالاستقالة آنذاك ــــ للمرة الاولى ايضا ــــ وحكومته لم تكن قد باشرت الحكم. ابرز هذا التدخل الحاجة الاقليمية والدولية الى وجوده على رأس الحكومة الجديدة، تحوطاً مبكراً من الشغور المحتمل، قبل شهرين فقط من نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان. اكثر من اي حكومة سابقة، لا تملك حكومة سلام ــــ وهو ما يعرفه رئيسها ووزراؤها ــــ مفتاح استقالتها في الوقت غير المناسب.
ثانيها، ان تكليفه المفاجىء في نيسان 2013 رمى الى اختبار مواصفات رئيس للحكومة لا تشبه تجارب ثلاثاً سبقته مع الرؤساء فؤاد السنيورة وسعد الحريري ونجيب ميقاتي، وكل منهم تحوّل سببا مباشرا للاشتباك، قبل ان يفضي انقسام حكومته الى اسقاطها او ارغامها على الاستقالة. لم يسع السنيورة مواجهة معارضيه خارج الحكومة، ولا الحريري وميقاتي استيعاب خلافات شركائه داخلها، فانفجرت تباعا. بذلك يكمن مغزى وجود سلام، لا سواه، على رأس الحكومة الحالية في ضمان استمرار الشرعية الدستورية والحؤول دون انفجارها.
ثالثها، لأن لا رئيس للجمهورية، لا يسع سلام تقديم استقالته الى اي مرجع دستوري آخر. لا ينقص تاريخ حكومات ما قبل اتفاق الطائف سوابق بدت آنذاك مستغربة ومثيرة للجدل، الا انها وقعت عندما كانت السلطة الاجرائية في يد رئيس الجمهورية بصفته رئيسا لمجلس الوزراء. ترجحت السوابق من رؤساء للحكومة عُدّوا ودعاء كالرئيس سامي الصلح حينما اعلن استقالة حكومته في ايلول 1952 في مجلس النواب ولم يتقدم بها من الرئيس بشارة الخوري، الى رؤساء حكومات عُدّوا صقورا ببرودة اعصاب فولاذية كالرئيس رشيد كرامي الذي استقال بدوره في نيسان 1969 في مجلس النواب قبل تقدمه بها في اليوم التالي من الرئيس شارل حلو. ولأن كرامي اكثر رؤساء الحكومات اللبنانية ابتكارا للسوابق، بدءا من تأليف يطول ستة اشهر عام 1969، مرورا بمقاطعة الرئيسين فرنجيه عام 1975 والجميل عام 1986، لم يتردد في 4 ايار 1987 في مفاجأة الاصول الدستورية عندما اعلن استقالة حكومته وتوجّه بها «الى الشعب».
وقد لا تكون استقالة سلام احسن حظا. فالرجل الذي وقع رئيس الجمهورية مرسوم تكليفه ــــ وهي احدى الصلاحيات المقصورة على الرئيس ــــ لا يسعه رد الامانة الا الى صاحبها، وان رشحته الغالبية النيابية. بيد ان الامر يمسي اكثر تعقيدا في غياب رئيس الجمهورية. استقالة كهذه لن تعثر على مرجعية دستورية يمثلها الرئيس او تنوب عنه كي ترفضها، او تقبلها وتقرن قبولها بتحديد مواعيد لاستشارات نيابية ملزمة تفضي الى تسمية رئيس مكلف. ناهيك بأن تحول الحكومة الى تصريف اعمال، في غياب رئيس الجمهورية الذي يمثل صمام امان استمرار الشرعية الدستورية وانتظام المؤسسات، يجعل الدولة برمتها على كف عفريت. الاخطر ان كل حقيبة تصبح في ذاتها حكومة مصغرة، ووزيرها سيد ادارته خارج مرجعية مجلس الوزراء وفي منأى عن محاسبته في مجلس النواب.