يبدو أن سقف المواجهة التي فتحها رئيس حزب “القوات اللبنانيّة” سمير جعجع مع أطراف السلطة لا حدود لها، وبات يتصرّف وكأن لا شيء يخسره “لأننا قد نخسر البلد من أيدينا إذا استمرّت السياسات الحالية”.
لا يمكن توقّع ما هي خطوات المواجهة المقبلة التي قد يتّخذها جعجع، لكنّ الأكيد، حسب القيادة القواتيّة، أنّ لا مساومة بعد الآن ولا خطوطاً حمراء لا مع الخصوم ولا مع الحلفاء، خصوصاً في تصرفاتهم الخاطئة.
وعلى رغم المواجهة المفتوحة مع العهد، إلاّ أن جعجع حضر اللقاء الإقتصادي في بعبدا الإثنين، لكنّ المفاجأة كانت في ما أعلنه ليلاً لـ “نداء الوطن”، إذ قال إن “المطلوب حكومة جديدة تُحدث صدمة إيجابية كي لا تبقى الأمور تراوح في مكانها، وبطبيعة الحال يجب أن تحظى حكومة التقنيين الجديدة بغطاء ودعم من كل القوى السياسية كي تتمكن من القيام بمهامها الإصلاحية”.
ويأتي طرح جعجع لهذه الحكومة الجديدة من أجل الخروج من الدوامة التي تدور فيها البلاد خصوصاً أن الوضع قد وصل إلى حافة الإنهيار، لذلك يدعو جعجع إلى تأليف حكومة تكنوقراط وإبعاد السياسة والتدخلات غير المنطقيّة عنها، وتُمنح صلاحيات واسعة وتضع خريطة طريق لمعالجة الملفات التي لم تُعالج منذ 30 سنة مثل الكهرباء، لأن الإكمال بالترقيع سيوصل البلاد إلى انهيار، وتعتبر “القوّات” أنّ الحلّ هو بمثل هكذا حكومة تكون على قدر آمال الشعب اللبناني، وتضع قطار الإصلاح على السكّة الصحيحة.
قد يكون طرح جعجع أكثر من جيّد، لكنّ هناك مشكلات وعوائق عدّة تحول دون ذلك، فالحكومات بعد “اتفاق الطائف” أصبحت هي السلطة السياسيّة الحاكمة، وقد نقل “الطائف” الصلاحيات من رئيس الجمهوريّة في جمهورية ما بعد الإستقلال ووضعها في يد مجلس الوزراء مجتمعاً. كذلك، فإن الحكومة، وبغضّ النظر عن الشقّ التقني أصبحت صورة مصغّرة عن مجلس النواب، وهي في معظمها حكومات وحدة وطنيّة.
في عهد الرئيس الياس الهراوي الذي امتدّ تسع سنوات، تم تأليف ست حكومات، وكانت الحكومة الأولى العام 1989 برئاسة الرئيس سليم الحص وهي سياسية بامتياز، من ثمّ خلف الحص كل من الرؤساء عمر كرامي، رشيد الصلح ورفيق الحريري، وكلّها كانت حكومات سياسية مُطعّمة باختصاصيين.
إلى ذلك، إفتتح الرئيس إميل لحّود عهده العام 1998 الذي امتدّ حتى العام 2007، بحكومة برئاسة الحصّ كانت سياسيّة لكنها مطعّمة أيضاً بتكنوقراط، من ثمّ أكمل الرئيس الحريري بالحكومات من 2000 إلى 2004، وكانت حكومات سياسيّة، وخلفه كرامي بعد التمديد للحود في 3 أيلول 2004، واستقال في 19 شباط 2005 بعد استشهاد الحريري.
أما التجربة الوحيدة التي أتت بحكومة شبه تكنوقراط فهي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي نظّمت إنتخابات 2005، وقد شُكّلت بعد فشل كرامي في تأليف حكومة، لكنها في المقابل جاءت نتيجة تفاهم أميركي – فرنسي – سعودي – إيراني – سوري، ومثّلت عدداً من القوى السياسيّة آنذاك، وقد قالها العماد ميشال عون حينها بأنه يرى “أنصار السلطة في هذه الحكومة أكثر من أنصار المعارضة”. وبعد انتخابات 2005 شكّل الرئيس فؤاد السنيورة حكومة سياسيّة.
وفي عهد الرئيس ميشال سليمان شُكّلت أربع حكومات برئاسة كل من السنيورة، الرئيس سعد الحريري، ميقاتي والرئيس تمام سلام، وكلها حكومات سياسيّة. وفي عهد الرئيس ميشال عون شكّل الحريري حكومتين سياسيتين. وفي نظرة إلى كلّ هذه الحكومات، يبدو جلياً أن هناك صعوبة، إذا لم يكن استحالة، في تأليف حكومة تكنوقراط الآن، إذ إن من سيشكّلها في الأساس هما رئيسا الجمهورية والحكومة، وبالتالي لن تخلو من كثير من السياسة.
إلى ذلك، فإن الأجواء السياسية غير مؤهلة لاستقالة الحكومة وتأليف أخرى، ومعلوم أنّ حكومة الحريري الاخيرة أخذت أكثر من عشرة أشهر لتأليفها، فكم ستستغرق أي حكومة جديدة من الوقت؟
كذلك، فإن كل القوى السياسية لن تقبل بأن تصبح غير ممثلة في الحكومة وأن تترك مسألة التأليف لعون والحريري، وبالتالي لن تتخلى بسهولة عن حصصها من مغانم “البقرة الحلوب” التي تعوّدت عليها منذ عقود.
كل تلك العوامل تجعل التغيير الحكومي صعباً جدّاً في هذا الظرف، في حين أن المجتمع الدولي يطالب الحكومة الحالية بإجراء الإصلاحات الضرورية غير آبه بالشكل بل يهمّه المضمون.