أمّا وأنّ المواقف معروفة في مسار تشكيل الحكومة التي سيترأسها الشيخ سعد الحريري في مطلع عهد فخامة الرئيس العماد ميشال عون فقد حضرتني ذكرى تشكيل إحدى الحكومات في عهد الرئيس شارل حلو برئاسة الرئيس عبداللّه اليافي رحمهما اللّه.
كنت في ذلك الحين لا أزال أدرس الحقوق وكان أساتذتنا من تلك الكوكبة التي لا تُـجارى أمثال المرحومين فؤاد افرام البستاني وبطرس ديب وألبير فرحات وإدمون ربّاط وصبحي المحمصاني الذين كان كل منهم عَلَماً وعالماً (…) وفي الوقت ذاته كنتُ بدأتُ عملي في الصحافة في جريدة «تلغراف بيروت» التي كانت واحدة من كبريات الصحف اللبنانية يوم كنّا نحتار في أن نجزم ما إذا كان لبنان (الذي كان) هو الذي صنع مجد صحافته، أو كانت صحافته هي التي صنعت مجده. ولعلّ في القولين حقاً.
توجهت مع قافلة من الزملاء الى القصر الجمهوري الذي كان يومذاك بين صنوبرات حرج تابت وفي أفيائها الظليلة. وكان علينا أن نرابط تحت احداها، لأنه لم يكن في الإدارات الرسمية كافة غرف للصحافة والصحافيين. والبلاد في أوج الصراع بين »النهج« (الشهابي) والحلف الثلاثي.
وصل الرئيس اليافي الى القصر نحو السادسة مساء بعدما أنهى استشاراته في مجلس النواب، وكان الرئيس حلو قد أنهى استشاراته (غير الملزمة) من قبل، وعكف الرجلان على تشكيل الحكومة ونحن نرابط وليس ثمة وسيلة للتواصل مع صحفنا في ذلك الزمان. وإذا كان لابدّ من إطلاع أصحاب الصحف والزملاء في مكاتبهم على المستجدات، فكنّا نتقاسم الأدوار، إذ يتوجه الواحد منا الى صحيفته ويجري من هناك الإتصال بسائر الصحف فيطلع مكاتب التحرير على المعلومات العامة محتفظاً لجريدته بالمعلومة الخاصة إذا كانت متوافرة. ثم يعود الى تحت الصنوبرة التي نفيء إليها ليلاً ونهاراً، صيفاً و… تحت الأمطار. ولم يعتد لبنان على «قاعة الصحافة» إلاّ بدءاً من العام 1970 عندما خص الرئيس المرحوم سليمان فرنجية أبناء «مهنة البحث عن المتاعب» بقاعة خاصة، واعتبر ذلك فتحاً مبيناً، ثم درجت عليه سائر المقار الرسمية تدريجاً.
تجاوزت الساعة منتصف الليل والإجتماع لم يزل معقوداً بين الرئيسين حلو واليافي… حتى بلغت الساعة الثانية فجراً عندما أطلّ اليافي ليقول بالحرف الواحد: «يعطيكم العافية يا شباب… الليلة ما في شي والصباح رباح».
وعلى الأثر عاد الصحافيون ادراجهم الي المكاتب إلاّ أنا! فقد لفتني أنّ الرئيس اليافي لم يستقل سيارته مغادراً إنما أدلى بكلامه الوارد أعلاه ثم عاد الى الداخل. وتساءلت: لماذا؟ وأجبتني: لأن الحكومة ستصدر الليلة من دون أدنى شك.
وبقيت مرابطاً تحت الصنوبرة!
وعند الساعة الثانية والنصف وصلت سيارة ترجل منها «سميّي» المرحوم الشيخ خليل بشارة الخوري ودلني الى داخل القصر… ولم تلبث أن كرّت سبحة الوزراء لتصدر الحكومة عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً. فقبضت على لائحة التشكيلة كمن يقبض على الكنز الثمين، وعدت الى الجريدة، وكنت في آن معاً أشرف على تحريرها… وصدرت «التلغراف» بأسماء وصور الوزراء التي أمنها لي من الأرشيف الزميل المرحوم شفيق نعمة… وكانت الصحف كلها قد صدرت بالمانشيت الواحدة وبالأحمر العريض: »تعثرت«!
عند الثامنة والنصف صباحاً سحبت «النهار» أعدادها من أسواق بيروت وأصدرت طبعة ثانية بينما كان استاذنا المعلم الكبير المرحوم غسان تويني يتصل بي الى منزلي مهنئاً!