ما من شك في أنّ تنظيم «داعش» نجَح في أن يكون عاملاً أساساً في تغيير العالم. نعم لم يعد العالم كما عرفناه سابقاً وسيبقى كذلك لفترة غير محدّدة. صحيح أنّ اعتداءات 11 أيلول التي نفّذها تنظيم «القاعدة» شكلت نقطة الانعطاف الأولى، لكنّ تنظيم «داعش» أدخل الرعب الى داخل المجتمعات الأوروبية والأميركية من خلال عملياته الجريئة بعدما نجح في التغلغل داخل الأوساط الإسلامية المهاجرة.
نظر كثيرون الى ظاهرة وصول دونالد ترامب الى البيت الابيض مناقضاً بذلك كلّ المعايير والشروط التي كان يتطلّبها انتخاب الرئيس الأميركي، على أنها نقطة التحوّل في النظام الدولي الذي ساد خلال العقود الماضية.
وصول ترامب كان بمثابة الإشارة الأكثر وضوحاً وربما فجاجة، فقبله إشارات كثيرة لا تقل تعبيراً حول السلوك العالمي الجديد الآتي والذي يرتكز على التمسّك بالقومية على حساب الشراكة الدولية.
وقد تكون أولى الإشارات التي ظهرت مع وصول فلاديمير بوتين الى السلطة في روسيا وتجديد ثقة الشعب الروسي به أكثر من مرة وهو ما قاده لاحقاً الى أوّل تدخل روسي عسكري في الشرق الاوسط.
ومن ثمّ جاءت الإشارة الدولية الثانية والتي كانت صادمة مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليطلّ بعدها ترامب من واشنطن وسيليه فرنسوا فيون في فرنسا حيث يحضّر المسرح لدخوله قصر الإيليزيه في أيار المقبل.
ترامب كشف عن خطواته التي ينوي اتخاذها فور تسلّمه مقاليد السلطة في بلاده والتي حدّدها بخمس نقاط، وهي الهجرة والأمن القومي وإصلاح الطبقة السياسية وملف الطاقة وأخيراً وليس آخراً إلغاء اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ.
والواضح أنّ كلّ هذه النقاط لها علاقة بالداخل الأميركي بما فيه اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ ومن زاوية استعادة دائرة التوظيف وتحريك الصناعة ولو على حساب إخلاء الساحة الآسيوية للمارد الصيني الصاعد. فبالنسبة الى الرئيس الأميركي المنتخب: «المجتمع الأميركي أوّلاً».
ومعه تبدو اهتمامات ترامب بضرب «داعش» والقضاء عليه لحماية أمن المجتمع الأميركي، ولو كان الثمن الإقرار بالشراكة الروسية وتوسيع مهماتها واستفادة النظام السوري من هذا الواقع الجديد.
صحيفة «وول ستريت جورنال» تحدثت عن وجود احتمال بتعيين الرئيس السابق لـ «سي آي إي» الجنرال ديفيد بترايوس وزيراً للدفاع وهو الذي قاد الجيش الأميركي في الشرق الأوسط والخبير بشؤونه المعقدة، وهو ما يعني إشارة اضافية لأولوية محاصرة «داعش» وضربه على أيّ أولوية أخرى.
فيّون الذي شكل مفاجأة الانتخابات التمهيدية الفرنسية وعكس معه مزاج الفرنسيين ورغبتهم بالتشدد قالها صراحة بأنه ضد «داعش» ومع روسيا ودمشق في الحرب ضده.
صحيح أنّ الانطباع السابق بأنّ مارين لوبان هي التي من المفروض أن تستحوذ على تأييد الشارع الفرنسي كونها الأكثر تطرّفاً، لكن فيّون الذي يتمسك بسياسة متشدّدة على قاعدة «فرنسا أوّلاً» وتأمين الحماية الأمنية لمجتمعه يمتاز عن لوبان بأنه أكثر رصانة وعراقة، ولو أنه ينتمي الى خانة السياسة المتشدّدة نفسها.
حتى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يعتبر ترامب نظامه العسكري – الأمني في مصر مثالاً يجب تعميمه على البلدان التي ضربها «الربيع العربي»، قال بصراحة أيضاً إنه يجب مساعدة جيوش العراق وليبيا وسوريا لكي تحفظ الأمن وتؤمّن الاستقرار.
هو العالم تغيّر وستظهر معالم تبدّله في وضوح خلال المرحلة المقبلة.
وبدا من العرض العسكري الذي أقامه الجيش اللبناني في عيد الاستقلال أنّ التطوّر الكبير الذي شهدته القوى العسكرية واضح، خصوصاً لناحية التجهيز والذي ساهمت فيه الولايات المتحدة الأميركية.
لم يكن ذلك من باب الأخلاق أو المجاملة، بل من باب المصلحة السياسية، إذ إنّ الجيش أثبت نجاحاً باهراً الى جانب القوى الأمنية الأخرى في محاربة الإرهاب وضبط الساحة اللبنانية الحساسة والصعبة وحيث البركان السوري يلفح بلهيبه بلداناً قريبة وبعيدة.
صحيح أنّ تسوية إقليمية رافقت وصول عون الى قصر بعبدا في مقابل سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، إلّا أنّ الهجمة الإقليمية في اتجاه رئيس الجمهورية أوحت وكأنّ هناك تسابقاً، وربما نزاعاً مخفيّاً، لدفع لبنان الى الذوبان مجدّداً في محاور النزاع الإقليمي.
بداية كانت إيران وثمّ سوريا، ومن بعدها السعودية فقطر ووجّهتا دعوتين منفصلتين للرئيس اللبناني. وربط البعض بين الدعوتين السعودية والقطرية وبين الحديث عن إعادة رفع الحظر عن المستثمرين الخليجيين في لبنان.
في الواقع لا تبدو الصورة كذلك. فخلال لقاءاته تحدث الرئيس اللبناني بصراحة عن الحرب الدائرة في سوريا وعن ضرورة محاربة الإرهاب، وهو ربما ما اختصره في حديثه الصحافي الأول عندما اعتبر أنّ بقاء الرئيس بشار الأسد منع تحويل سوريا ليبيا ثانية.
وقيل أيضاً إنّ الزيارة الاولى للرئيس اللبناني والتي ستكون الى السعودية، قد تكون أثارت فرنسا التي اعتادت أن تكون المحطة الخارجية الأولى لكلّ رئيس لبناني، إضافة الى محور إيران وسوريا، وخصوصاً أنّ الأوساط القريبة من الحريري أشارت الى وجود التزام لدى عون بعدم القيام بزيارة رسمية الى دمشق، وهو ما سمح بانتزاع الموافقة السعودية على التسوية الرئاسية اللبنانية.
لكنّ العارفين يقولون إنّ في هذا الاعتقاد تبسيطاً في ادراك الواقع، وإنّ طهران كما دمشق تدركان جيداً الظروف اللبنانية، وإنّ العاصمة السورية لن توجّه دعوة رسمية الآن إلى الرئيس اللبناني لزيارتها، وإنّ الربط بين التعثر الحكومي الحاصل والواقع الإقليمي في غير محلّه، ذلك أنّ التعثر الحكومي لديه أسبابه الداخلية بنكهة إقليمية ربما، وإنّ المشكلة هي مشكلة أحجام ستجد حلاً لها على الطريقة اللبنانية مثلما كان يحصل دائماً.