أعادت التطورات الإقليمية على أثر الاشتباك الأميركي-الإيراني الحديث عن تشكيل حكومة سياسية تحت عنوان «لَمّ شمل» أو حكومة تكنو- سياسية، بدلاً من الحكومة التي يسعى الرئيس المكلف حسان دياب إلى تشكيلها تحت عنوان «حكومة تكنوقراط».
كيف يمكن لحكومة لمّ الشمل أن تبصر النور طالما انّ الوزير جبران باسيل، الذي هو جزء من الأكثرية التي كلفّت الدكتور حسان دياب، أكد في موقف مكرر في مقابلته التلفزيونية الأخيرة أنه ضد تشكيل حكومة سياسية؟ وكيف يمكن لحكومة تكنو- سياسية ان تتشكّل طالما انّ باسيل الذي يقف خلف التكليف يرفض تأليف حكومة من هذا النوع؟
وكيف يمكن لحكومة “لمّ الشمل” ان تولد طالما انّ “القوات اللبنانية” أعلنت منذ 2 أيلول الماضي تمسّكها بحكومة اختصاصيين مستقلين بعيدة كل البعد عن القوى السياسية، ورفضها أي حكومة سياسية او تكنو- سياسية او تكنوقراطية مغلّفة على غرار الحكومة العتيدة التي سَمّت الأكثرية الحاكمة وزراءها؟
وكيف يمكن لحكومة لمّ الشمل ان تولد طالما انّ الرئيس سعد الحريري اصطدم بالأكثرية الحاكمة بسبب رفضه تأليف حكومة تكنو- سياسية، وإصراره على تشكيل حكومة لا تتدخل القوى السياسية في تسمية شخصياتها، كذلك رفضه مشاركة “المستقبل” في اي حكومة مطعّمة باختصاصيين؟
وكيف يمكن لحكومة “لمّ الشمل” ان تتشكّل طالما انّ الحزب التقدمي الإشتراكي وحزب الكتائب ضدها، ولا تحظى بثقة الناس المنتفضة في الشارع والقابعة في منازلها والتي حمّلَت وتحمِّل هذا النوع من الحكومات مسؤولية إدخال لبنان في أزمة مالية ما بعدها أزمة؟
وما أهمية حكومة “لمّ شمل” طالما انّ مكوناتها غير متفقة على الأساسيات ومختلفة تحديداً حول العنوان الإقليمي الذي استدعى الكلام مجدداً عن حكومة وفاق وطني؟ فحكومات لمّ الشمل تتشكّل في الدول التي تعصف فيها الأزمات ومكوّناتها متّفقة على تشخيص موحّد لهذه الأزمات وقررت أن تأتلف من أجل مواجهتها، الأمر غير القائم في لبنان وخصوصاً في المسألة المتصلة بدور لبنان، بين مطالب بتحييده عن نزاع المحاور في المنطقة، وبين من يواصل توريطه ويتعامل معه كساحة ضمن محور إقليمي ورأس حربة هذا المحور.
وإذا كان الموضوع الإقليمي أو النأي بالنفس من المواضيع الخلافية، فكيف يمكن الدعوة إلى حكومة لمّ شمل بمسائل أدّت إلى تفريق هذا الشمل؟ وأين المصلحة في تشكيل حكومة مصيرها الانفجار من الداخل، خصوصاً انّ المواضيع الخلافية كانت محيّدة في حكومتي العهد الأولى؟
وإذا كان لمّ الشمل مطلوباً حول أزمة لا يفترض أن يكون هناك اي خلاف حولها، فالوحدة المطلوبة هي حول توفير الغطاء الوطني والسياسي لحكومة اختصاصيين مستقلين فعليّة لا مشوّهة تعمل على مواجهة الأزمة المالية، وبالتالي لمّ الشمل المطلوب هو حول طريقة تجنيب لبنان الأسوأ مالياً وفرملة اندفاعة الانهيار ونقل البلد إلى شاطئ الأمان.
ومن ثم كيف يمكن لـ”حزب الله” الذي دعا المجتمعين الدولي والعربي إلى منح حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية فرصة وعدم الحكم عليها بكونها حكومة اللون الواحد، أن يلجأ إلى حكومة مواجهة لن يمنحها الناس الفرصة ولا الخارج ولن تكون قادرة على مواجهة تداعيات الأزمة السائدة؟
فالحزب يعمل في السنوات الأخيرة وفق قاعدة “أكل العنب لا قتل الناطور”، وبمعزل عن المواقف التعبوية التي استدعتها التطورات الإقليمية ولا يستطيع أن ينأى بالموقف عنها تلبية لقواعده وبيئته، إلّا انه يدرك أنّ حكومة مواجهة تشكّل أكبر هدية لخصومه كونها ستولد ميتة من الداخل قبل الخارج، خصوصاً انه يتحسّس حجم الأزمة المالية التي طاولت كل البيئات ومن ضمنها بيئته وتُنذر بكوارث اجتماعية في حال استمرارها.
وتأسيساً على كل ما تقدّم، فإنّ الهدف من استحضار الحكومة التكنو- سياسية يندرج في سياق الضغوط المتبادلة ضمن فريق الأكثرية الحاكمة في الأمتار الأخيرة قبل التأليف بغية تحقيق مزيد من المكاسب السلطوية وفق سياسة تسجيل النقاط بعضهم على بعض.
فعندما يلوِّح الرئيس نبيه بري بحكومة “لمّ الشمل” أو تفعيل حكومة تصريف الأعمال، فهو يوجّه رسالة ضمنية إلى الرئيس المكلّف مفادها أنّ تمسّكه بالشروط التي يضعها سيؤدي إلى إعادة نظر شاملة في الحكومة التي يؤلفها بدءاً من شخصه، في اعتبار انّ حكومة وحدة وطنية تستدعي شخصية غيره، كما انّ تفعيل حكومة تصريف الأعمال يعني إبقاءه رئيساً مكلفاً حتى إشعار آخر.
ويشير بعض المعلومات المتقاطعة إلى انّ الثنائية الشيعية تحاول الضغط على الرئيس المكلف لكي يأخذ بالشروط التي يضعها باسيل، وتحديداً لجهة حصته وبعض الوزراء الذين يضع “الفيتو” على توزيرهم. فصحيح انّ فرص باسيل الرئاسية ابتعدت كثيراً، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد ان تشكل الحكومة منصّة لبروز أسماء مرشحة لرئاسة الجمهورية، وبالتالي لن يتهاون إطلاقاً مع هذه المسألة خصوصاً انّ الحكومة كفيلة بالتظهير والتلميع والترويج والتهيئة، وهذا ما يفسِّر التراجع عن الاتفاق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف وإعادة تأكيد استبعاد الوجوه الوزارية السابقة في شتى الحكومات المتعاقبة وليس فقط في الحكومة الأخيرة.
فالعقدة القائمة ليست من طبيعة استراتيجية ولا إقليمية، إنما عقدة تكتية ومحلية وسلطوية بامتياز وتتصل بأجندة باسيل السياسية المثلّثة الأضلع: إستبعاد توزير أي شخصية يُفضي توزيرها إلى دخولها نادي المرشحين لرئاسة الجمهورية، الحفاظ على طاقمه الاستشاري والإداري في الوزارات التي تولّاها، ومحاولة التملّص من تبعات فشل الحكومة عن طريق الإدعاء أن لا رابط بينه وبين الشخصيات الموزّرة، وقد عبّر عن هذا الأمر في وضوح لأنه يخشى فعلاً من فشل الحكومة العتيدة بسبب ضخامة الأزمة المالية، وكونه لم يعد يتحمّل المزيد من الخسائر الشعبية والمعنوية والسياسية.
وفي الخلاصة، الحكومة ستؤلّف فور تراجع الرئيس المكلف عن بعض سقوفه وشروطه، لأنّ العقدة محلية لا إقليمية، وهناك مَن وضعه أمام خيارين: التراجع لباسيل، أو الاعتذار، وفي أفضل الحالات حرق دوره التكليفي من خلال تفعيل حكومة تصريف الأعمال وحرف الأنظار عن التأليف في اتجاه ملفات أخرى.
ويبقى السؤال في مصلحة الرئيس المكلّف في تشكيل حكومة بمواصفات غيره ومرفوضة عند الناس، وإمكانية نجاحها ضئيلة جداً إلى درجة أنّ أحد مؤلّفيها غسل يديه منها قبل ولادتها، تجنّباً لتحمُّل تبعات فشلها.