تُقدّر قيمة عقارات الرملة البيضاء بمليارات الدولارات. قبل يومين، أصدر محافظ بيروت قراراً بتجميد أي عمل على 21 منها، بانتظار حسم الجدل حول ملكيتها وطبيعتها وتصنيفها. القرار يثير الكثير من الضجيج. فهل سيعيد الحق إلى أصحابه، ام أنه سيشرّع نهب الشاطئ العام؟
دخل شاطئ الرملة البيضاء مرحلة جديدة مع اتخاذ محافظ بيروت زياد شبيب، منذ يومين، قراراً بوقف سائر المعاملات والتراخيص المتعلقة بعقارات الرملة البيضاء، إذ كلف شرطة بيروت بتوقيف كافة الاعمال التي تجري في العقارات الممتدة على طول الشاطئ العام، من تخوم مقهى «غراند كافيه» شمالاً، حتى ما بعد مشروع «إيدن روك» جنوباً. ماذا يعني ذلك؟
عقارات الرملة البيضاء، سواء تلك الواقعة على الشاطئ، أو تلك المتاخمة له، باتت «محرّمة»، إلى حين: ممنوع بيعها أو البناء عليها أو الاستحصال على أي تراخيص متصلة بها. قرار ضجّت به أوساط المالكين والمضاربين والسماسرة والسياسيين، لما فيه من أثر على 21 عقاراً، تُقدّر قيمتها بمليارات الدولارات، وخاصة أنه أتى بعد إنجاز صفقة بيع 4 من هذه العقارات بنحو 115 مليون دولار، ومحاولة المجلس السابق لبلدية بيروت «تهريب» شراء 3 عقارات أخرى بنحو 120 مليون دولار.
قرار شبيب يبدو مستنداً إلى الكتاب الذي كان قد وجهه محافظ بيروت السابق ناصيف قالوش الى امين السجل العقاري يطلب فيه إزالة إشارة «ممنوع البناء» عن اثنين من العقارات الأربعة (4011 و4285) التي باعها فهد الحريري أخيراً الى رجل الأعمال محمد سميح غدار، لتصبح صالحة للاستثمار. وأدى قرار شبيب إلى تعليق الأشغال على الشاطئ، بما فيها التي كان يقوم بها رجل الأعمال وسام عاشور في مشروع «إيدن روك». والمطّلعون على ملف المشروع يؤكدون أن عاشور كان قد سدد منذ مدة تكاليف تجديد رخصة البناء، وكان يفترض أن يتسلمها من المحافظة في اليومين المقبلين.
مصادر مقرّبة من عاشور استغربت شمول مشروع «إيدن روك» بالتدبير الذي اتخذه محافظ بيروت، وأوضحت أن العقارات التي سيُقام عليها المشروع «ليست متصلة بالمسبح الشعبي لا من قريب ولا من بعيد، «ما يجعل التدبير المتخذ عبارة عن استهداف مباشر»، ويمكن للمتضررين من هذا التدبير «اتخاذ الاجراءات القانونية للطعن أو للاعتراض على التعسّف والمطالبة بعطل وضرر. التطوير العقاري لهذا المشروع بات متوقفاً اليوم، ولم يعد ممكناً الحصول على الترخيص الذي سدّدت رسومه، ولم يعد ممكناً بدء الأعمال والإنشاءات… كل هذه الأعمال أصبحت مجمّدة». وتشير المصادر إلى أن «هذا التدبير يرتّب تداعيات مادية ومعنوية كبيرة يجب عدم تحميلها للمستثمرين في هذا البلد، فإذا كانت الدولة تبحث عن علاج لمسألة الملكية وأصلها، فعليها ألا تحمّل تبعات إهمالها السابق لمن يستثمر اليوم». وبالتالي «فإن خيارات التعامل مع هذا الأمر مفتوحة، من الاعتراض أمام وزير الداخلية إلى مجلس شورى الدولة». وبما أن شبيب وقف في قراره عند العقارين المحاذيين لـ»ايدن روك» ولم يشمل باقي العقارات وصولاً الى «السمرلند» رغم وقوعها ضمن حدود بيروت الادارية، سألت المصادر: «لماذا استثنيت عقارات مملوكة من الوزيرين السابقين محمد الصفدي ووليد الداعوق من هذا القرار؟ ألا يكفي هذا الأمر كدليل على الاستهداف؟». وفعلياً، السؤال هنا مشروع ويحتمل الكثير من التأويل والتحليلات.
على المقلب الآخر، أكدت مصادر الدائرة المقرّبة من رجل الأعمال محمد سميح غدار أن «العقارات الأربعة باتت مسجلة باسم غدار ولم يعد لفهد الحريري علاقة بها»، مشيرة الى أن «غدار لم يكن ليُتمّ الصفقة قبل حرصه على قانونية وضع العقارات». ورجّحت في هذا السياق أن «يتراجع محافظ بيروت عن قراره قريباً جداً عندما تتضح الصورة أمامه».
شبيب الذي حصل على بعض المستندات التي طلبها من الدوائر العقارية، ينتظر الحصول على مستندات إضافية طلبها أمس، ليبني على الشيء مقتضاه. وهو تلقى طلباً من وزير الداخلية نهاد المشنوق بتسليمه تقريراً خطياً يوضح فيه أسباب اتخاذه هذا القرار. وفي ما عدا الغموض الذي يلف استثناء شبيب لنحو 13 عقاراً يملكها الصفدي وأخرى للداعوق، مجموعة أسئلة تطرح نفسها: لماذا منح المحافظ ورئيس دائرة مصلحة الهندسة التابع له في حينها ايلي اندريا (يشغل منصب نائب رئيس بلدية بيروت حالياً)، عاشور الرخصة الأولية للبدء بأعمال الحفر، ووافق على تجديدها مرة أخرى قبل أن يوقفها أخيراً؟ فبعض العقارات التي يُقام عليها المشروع لا لبس حول ملكيتها. أما السؤال الثاني فيتمحور حول عدم تحرك المحافظ قبل إتمام صفقة الحريري ــ غدار وانتظاره وصول نحو 115 مليون دولار الى جيب الحريري (ثمن العقارات الأربعة + الضرائب الواجبة على الشركة)، فيما يكمن السؤال الثالث في سبب إدراجه لبعض العقارات البعيدة عن الشاطئ والصالحة للاستثمار ضمن القرار. أما التساؤل الرابع، فعن مصير العقارات الثلاثة التي تشكل جزءاً من المسبح الشعبي، والتي قرر المجلس البلدي السابق لبيروت شراءها من ورثة الحريري بمبلغ خيالي يصل الى 120 مليون دولار (المبلغ خيالي لأن القانون يمنع إقامة أي بناء على هذه العقارات أولاً، ولأن هذه العقارات هي في الأصل ملك عام يستفيد منها أهل العاصمة وسكانها). وحينذاك، تصرّف المحافظ كـ»ساعي بريد»، واكتفى بإحالة قرار المجلس البلدي إلى الدوائر المختصة لتنفيذه وإعداد العقود، قبل أن تتدخل القوى السياسية لوقف الصفقة ــ الفضيحة التي لم تكن لتمر من دون اعتراض شعبي، ويضع وزير الداخلية قرار بلدية بيروت في «الجارور».
يبدو شبيب واثقاً من إجاباته عن الأسئلة المطروحة أعلاه. يقول إنه لم يُضمّن قراره عقارات ولم يستثن أخرى بناءً على هوية مالكيها. يضيف: «اتخذت قراري ليشمل كافة العقارات المرتبطة بتخطيط عام 1956، بعدما اكتشفنا أن قرارات صدرت سابقاً للسماح بالبناء على هذه العقارات». يوضح أن هذه القرارات هي إما مبنية على أحكام قضائية، أو على طلب محافظين سابقين لبيروت». ولهذا السبب، يضيف شبيب، طلب من الدوائر العقارية تزويده بكافة ملفات العقارات، لدراسة هذه الملفات وحسم الجدل بشأن ملكية العقارات وتصنيفها وطبيعتها. ينفي أن يكون قد تعمّد إصدار قراره بعد إتمام الصفقة بين غدار والحريري. يقول: عندما زارني غدار، سألته عن عملية البيع، فقال لي إنها لم تُنجَز. ولست أدري ما إذا كانت قد أنجِزَت أو لا». كذلك ينفي شبيب أن يكون قراره قد شمل عقارات عليها أبنية، مؤكداً أن عاشور لم يحصل على ترخيص لإقامة مشروعه، بل على تقرير من لجنة فنية لا أكثر. ولفت محافظ بيروت إلى أنه يريد معرفة كيفية نشوء هذه العقارات عام 1932 وما قبلها، ولتبيان ما اذا كانت موجودة قبل ذلك الوقت، لأن مسح عام 1932 يبدو مناقضاً للمنطق في بعض الأماكن: «ثمة عقارات طبيعتها تشير الى أنها ملك عام ولكن هي اليوم ملك خاص. لذلك طلبنا ملفاتها من أجل استيضاح إن كان لدى مالكيها حجج تمليك قبل عام 1925». وتجدر الإشارة إلى أن قانون عام 1925 (يحمل الرقم 144/s) حدّد الاملاك العامة البحرية، وألزم الدولة باستملاك الأراضي الواقعة على الشاطئ، والتعويض على المالكين إن كانوا يحوزون حجج تمليك صادرة قبل عام 1925، ما يعني أنه لا يمكن لأحد ادّعاء ملكية أي عقار على الشاطئ بعد عام 1925.
إلى أين سيصل شبيب؟ يجيب بأنه يريد حسم الأمور، بعد كل ما أثير حول عقارات الرملة البيضاء، «وكل من لديه حق سيُحافَظ عليه». في المقابل، فإن أداء السلطة لم يترك للبنانيين أي باب من أبواب الثقة بها. فهل ستكون خاتمة قرار شبيب ترسيخاً لوضع أيدي أصحاب المليارات على الشاطئ العام، أم أن بيروت ستستعيد متنفسها البحري الوحيد؟ وهل أن ما يجري هو في إطار تصفية الحسابات مع بعض المستثمرين، أم أنه محاولة لإدخال آخرين إلى «جنة الشاطئ»، أم انه يهدف فعلاً إلى «إحقاق الحق»؟ الأسئلة التي يطرحها المعنيون كثيرة. والاجابات عنها لا تحتاج إلى الكثير من الوقت لتتضح.