بالأمس، كما خلال الأيام الماضية، كان حاكم مصرف لبنان نجم الساحة السياسية – الاقتصادية على بياض. زار قصر بعبدا للقاء رئيس الجمهورية، وما كاد يتحدّث حتى حلّت أجواء التفاؤل ولو جزئياً على سوق النقد. لم ترشح تفاصيل عن اللقاء، تماماً كما لم ترشح أي تفاصيل عن لقائه السابق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، لكن مصادر مواكبة للزيارة تبني عليها للحديث عن “اتجاه إلى ضبضبة الظواهر الخطرة التي شهدها البلد على المستوى الاقتصادي أخيراً، وإعادة الموقف المالي ربطاً بالسياسي إلى سكة الأجواء الإيجابية”. فهل هذا ممكن فعلاً، في ظلّ الأوضاع المعيشية والاقتصادية الضاغطة على المواطنين، وفي ظلّ المشاحنات السياسة والاتهامات المتبادلة؟
السؤال الأساسي الذي يطرحه المتابعون، هو من يتحمل مسؤولية الأزمة؟ الحكومة، حاكم المصرف المركزي أم وزير المال؟
في الغرف المغلقة ثمة من يحمّل حاكم المصرف المركزي مسؤولية تفاقم الأزمة المالية في البلد، بوصفه مهندس السياسة المالية وقبطانها، ويتحدّث البعض عن صراع بينه وبين وزير المال علي حسن خليل لعدم اطلاعه الأخير على أمور مالية يقوم بها المصرف.
يعترف هؤلاء بأن المالية لا تتجزأ، وأن الجميع يتحمل المسؤولية، ولكن هذه المسؤولية تبدأ برأيهم من قائد فلسفة الهندسات المالية وتثبيت سعر النقد. أي أن الحاكم في الواجهة بالمعنى النقدي “وهو الذي يفترض به أن يرشد الحكومة ويتقدّم باقتراحات وينذر بوجود أزمات”، ومن هنا امتعاض المسؤولين، وكان من بينهم من لم يتوانَ عن التعبير عن سخطه على ما آلت اليه الأمور خلال اجتماعه مع حاكم المركزي.
كان عليه، بحسب قولهم، أن يستشعر اتجاه الأمور ويقترح البدائل الممكنة فيعرضها على السلطة التنفيذية والمراجع المختصة والمعنية كي يصار إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة بما يحفظ اقتصاد البلد ومدخرات المواطنين وحقوقهم ولقمة عيشهم. وهذا ما لم يحصل.
من قطع الدولارات؟
يلفت المتابعون إلى أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، حين جمع خبراء الاقتصاد في بيت الدين، والقيادات السياسية بمن فيهم قادة الأحزاب في بعبدا، حرص على تأمين الاجماع على ورقة اقتصادية تتضمن مجموعة إجراءات، ومن بينها ما طلبه رئيس مجلس النواب نبيه بري من إعلان حال طوارئ اقتصادية، وعلى هذا الأساس صدرت ورقة مشتركة أمّن من خلالها الغطاء السياسي على المستوى الوطني كي يؤسّس لموازنة 2020.
وكي تنال هذه القرارات شرعيتها، كان شرطها أن تتحوّل الى قوانين حيث يجب، أو تتبلور في الموازنة، وكان المطلوب تحفيزاً من حاكم المصرف المركزي والحكومة لإعلان حال الطوارئ، لكن هناك من لمس وجود نوع من المماطلة. وفجأة تدهور الوضع المالي وواجه البلد أزمة سيولة ما أثار امتعاض رئيس المجلس النيابي نبيه بري لعدم الالتزام بحال الطوارئ الاقتصادية. والسؤال الأساسي هنا، هل كان إجراء قطع الدولار من السوق متفقاً عليه. ضمن هذا الإطار قد يكون مكمن المشكل السياسي الاقتصادي مع حاكم مصرف لبنان.
سياسة جذب الودائع
في العام 2015 صدر قانون (HIFPA – Hezbollah International Financing Prevention Act) وبدأ تطبيقه العام 2016 الذي سجّل فيه لبنان أول تراجع في ميزان مدفوعاته، تزامن مع مشكلة بنك عوده في تركيا وذيولها في لبنان، يومها تدخل مصرف لبنان في ما يسمّى بالهندسات المالية التي هدفت إلى جذب الودائع بالدولار من المصارف مقابل سندات خزينة بفائدة متدنية، ما رأى فيه بعض الخبراء “تبادل مال واقتراض بصيغ ملتبسة بكلفة عالية”.
هذه الهندسة أمّنت دولارات لمصرف لبنان على امتداد السنوات من 2016 وحتى العام الحالي، بحيث استمرت المصارف في شراء سندات خزينة وباتت مجبرة على الدفاع عن الليرة. حقق مصرف لبنان هدفين من خطوته: واجه العجز المالي وورّط المصارف بالليرة كي يدافعوا عنها. لكن في المقابل لم تعد المصارف، ومن خلال الفوائد المرتفعة التي تتقاضاها من مصرف لبنان على ودائعها، تهتم بإقراض المواطنين وارتفعت الفوائد على قروض الإسكان ما خلّف تأثيرات سلبية على الاقتصاد اللبناني.
منتقدو الحاكم يرون أنه كان يفترض به العمل على تثبيت سياسة الصرف وأن يستقرئ اتجاه الأوضاع مع الوقت، ويجد بدائل لمنع الاستمرار بالتدهور خصوصاً وأنه مهندس السياسات المالية بموافقة رئيس الحكومة. وما يضاعف من هذه الانتقادات محاولة الحاكم التملّص من تحكمه بسعر الصرف.
تجاهل المؤشرات
بالعودة إلى تحميل المسؤوليات، مما لا شك فيه أن كلّ طرف يرمي المسؤولية على الآخر، ولكن لا يفوت أحد أن الوضع الاقتصادي الذي وصلنا إليه ليس نتاج حادث ظرفي مستجد، وإنما نتيجة سياسة اعتمدت عن سابق تصوّر وتصميم لفترة طويلة. كان على جميع الشركاء في السلطة النقدية والمالية والحكومة ومجلس النواب التنبّه إلى المسار التراجعي للأوضاع على مستوى تراجع الاحتياطي لدى المصارف والسيولة وعجز الموازنة وعجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات وارتفاع أعباء الاستدانة وتطوّر الفوائد والتمادي في إعادة هيكلة الدين العام سنوياً وتشريعه في قوانين الموازنات، والهندسات المالية التي كانت من أخطر التقنيات.
كلها مؤشرات كانت تنذر بتراجع الأوضاع وفقدان السيطرة تدريجياً على ضبط الأمور. وكان على كل المراجع والسلطات المعنية الالتزام بسياسة تثبيت سعر الصرف بالرغم من ارتفاع تكلفته واستغلال بعض الجهات المستفيدة منه ومن الهندسات المالية التي أجريت بموازاته. هؤلاء كافة، مسؤولون كلّ من موقعه وبحدود صلاحياته، وفي طليعتهم حاكم مصرف لبنان كونه يتولى قيادة هذا التوجه ويتابع نتائجه التطبيقية وانعكاساته المالية.
أجندة خارجية
في النظرة السياسية هناك عاملان مسبّبان للأزمة،الـ HIFPA والعقوبات الأميركية، والجهات الاقتصادية التي ركبت موجة الأميركيين بالخضوع إلى العقوبات وشروطها. ترافق ذلك مع موجة من الشائعات، لم يُعرف أساسها، هدفها التصويب على عهد رئيس الجمهورية ميشال عون. يرى أصحاب هذه النظرة أن هناك “أجندة خارجية لبعض من رأيناهم ينتقدون خلال المعركة ضد إسرائيل والمعركة ضد الإرهاب ونراهم يخوضون المعركة ضد الاقتصاد”. بالنسبة لهذا الفريق “لا معنى لتحميل رئيس الجمهورية مسؤولية وضع اقتصادي كانت تتحمله الحكومة في العهود السابقة”.
لسنا في أحسن أحوالنا ونعاني من ضغوط اقتصادية، لكن الوضع ليس منهاراً، يؤكد المعنيون بالشأن المالي والاقتصادي. رمي الشائعات لا يخدم، الإصلاحات ممكنة ولكن المشكلة أننا في بلد فيه تعدد للآراء وهذه بذاتها عامل إيجابي، ولكن مكمن سلبيتها في تعطيل أي إجراء إذا لم يكن متفقاً عليه… والاتفاق هنا ليس مسألة سهلة.