لا يخالف المألوف و«المأثور» في الموروث الثقافي العربي، الردح الجاري هذه الأيام تحت عنوان «أخطاء» المعارضة السورية التي أوصلت في بعض نتاجاتها الكارثية، إلى خسارة حلب!
ويتآلف مع ذلك الموروث، السياق النقدي التقريظي العنيف المعتمد راهناً والمشتمل على أحكام عامة ونهائية، فيما الحرب لا تزال قائمة قاعدة! وفيما هذه المعارضة المستهدفة لا تزال «موجودة» وناشطة في جبهات أخرى غير حلب! وفيما وقائع هذه النكبة من أصغر تفاصيلها حتى أكبرها، تقول إن خسارة معركة لا تعني خسارة حرب، وإن «القرار» في سوريا لم يعد في يد السوريين على الجانبين السلطوي والمضاد! وإن ذلك يعني، من ضمن ما يعنيه، أن خرائط السيطرة الميدانية خضعت وتخضع وستخضع لمساومات وصفقات وحسابات إقليمية ودولية كبرى، وأن لا دخل لذلك كله، لا بتركيبة الفصائل المقاتلة، ولا بأيديولوجياتها ولا بأطرها الفكرية ولا بهوياتها التنظيمية!
فتْح باب المحاكم الفكرية والنظرية لم يحن أوانه بعد! وأي مقاربة راهنة لا تلحظ هذا المعطى تكون قاصرة عن الصحّ وموغلة في الغلط.. ولا بأس من ردف هذه الخلاصة بقياس عام مفاده، أن أي معارضة ومن حيث المبدأ، لسلطة المافيا الفئوية الأسدية، هي في الجانب الصحيح من التاريخ والجغرافيا ومقوّمات الحق والضمير ومكارم الأخلاق وليس العكس! وأن ما يجري في سوريا، ومن حيث المبدأ أيضاً، هو «ثورة» أصلية فعلية قبل أي شيء آخر. وأن للسوريين الذين انخرطوا في هذا المسار «قضية» حقيقية وليست ملتبسة ولا مركّبة من خارج. وإن استمرارها وصمودها طوال السنوات الماضيات يؤكد ذلك وفي مواجهة هستيريا نارية ثأرية فئوية متعددة الطبقات أول واحدة منها كل خزنة السلطة الأسدية من العسف والإجرام والأجهزة والأسلحة الفتّاكة، وآخر واحدة منها هي الآلة العسكرية الروسية بكل صلفها وعنفها، وبينهما ميليشيات إيران و«مستشاريها» و«خبرائها» وأموالها.. إلخ! وفوقها جميعاً «حجر الرحى» في هذا العقد الفريد، أي موقف إدارة مستر أوباما الغريب غرابة هذا الزمان!
وما كان «داعش» إلا إضافة كاسرة على هذا المشهد المركّب. جاء ولم يقاتل إلا من ادعى الانتماء إليهم والدفاع عنهم! ولم يفعل سوى فتح دفرسوارات عميقة داخل قوى «الثورة» ومجتمعها وبيئتها وأفكارها وتطلعاتها وبرنامجها.
..هذه المعارضة «صمدت» في شرق حلب برغم كل ما سلف وأكثر منه! ولم تقوَ عليها قوى الجحيم كلها! ولو لم تكن أصالتها ماسيّة لضربها السوس والصدأ منذ الأيام الأولى لانطلاقتها من درعا في ذلك الآذار من العام 2011!
وذلك لا يلغي أن هناك الكثير الكثير الكثير من الأسئلة الإشكالية والصعبة، عن ظروف وبيان وأداء بعض هذه المعارضة. لكن الأولوية راهناً، ليست، ولا يمكن أن تكون، للطرق على أبواب «الجدل البيزنطي» في شأنها، ولا استحضار «برج بابل» إلى هذا المقام! بل التركيز الدائم والبديهي على الحقائق كما هي. وعلى كون المذبحة جارية على أيدي طغاة مستبدين سفّاحين يحملون مشاريع عدة تتقاطع عند منصّة الفتك بشعب سوريا وسرقة أرضها ومدنها وتغيير ديموغرافيتها وتوزيعها حصصاً على طريقة مغانم الحرب!
سقطت حلب لأن بنود «الصفقة» الأكبر من قرار السوريين قالت بذلك، وليس لأن المعارضة مشرذمة! أو قاصرة! أو لا تملك مشروعاً للحكم ولا تصوراً لأطره ودستوره وطبيعته! أو لأن بشار الأسد لا يزال «قوياً»! أو لأن «الفئة الناجية» مرعية برضى ربّ العالمين! أو لأن السوريين صاروا روّاد مدرسة «الولي الفقيه» أو لأن فلاديمير بوتين صاحب مشروع إنقاذي حداثي أخّاذ!
سقطت حلب لأن «القرار» بإسقاط بشار الأسد نهائياً لم «ينضج» تماماً بعد! ولأن «وظائف» هذه المذبحة لم تتحقق كلها بعد!