IMLebanon

«شعب لبنان العظيم» بعد 28 عاماً… «هنا كنّا وإلى هنا عُدنا»

حقَّق الجمهور الذي عايشَ التظاهرات أيام حكومة الرئيس ميشال عون الانتقالية حلمَه بانتخابه رئيساً للجمهورية، وسط الآمال المعلّقة على الرئيس بتحقيق إصلاحٍ شامل والحفاظ على الوطن الذي كان مهدَّداً بالانهيار.

ما بين جدران قصر بعبدا والساحات الخارجية قصصٌ وعبَر وحكايات، اختزَلتها السنوات الماضية وحوّلتها واقعاً وحقيقة شاهدَها محِبّو العماد بالعين المجرّدة ومنهم من لم يصدّقوا المشهد.

مشهد رسمته تحوّلات إقليمية ودولية، ولوَّنته ريشة الرسامين السياسيين الذي أيقنوا أنّ الحلّ الأفضل هو صياغة تسوية داخلية برضى إقليمي ودولي لكي لا تذهب البلاد إلى المجهول.

الألوان امتزجَت وشكّلت لوحةً في ساحات القصر الجمهوري، حشدٌ من المناصرين والمحازبين، وحتّى الحالمين، سلكوا الطريق سيراً على الأقدام من مداخل القصر الخارجية وصولاً إلى مكان الاحتفال.

أطفال، شباب، كبار السنّ، خطّوا مشهد قصر الرئاسة بالأمس أو «بيت الشعب» كما سُمّيَ برفعِ يافطة كبيرة على مدخلِه لتوحي بأنّ الناس تقول «هنا كنّا وإلى هنا عُدنا».

الحلم

العودة المنتظَرة التي كلَّلها مجلس النوّاب في جلسة 31 تشرين الأوّل أعطت دفعاً لمناصرين كانوا قد فقَدوا الأمل: الأمل بعودة عمادهم إلى الوطن أوّلاً، الأمل بخروج الاحتلال السوري من لبنان ثانياً، الأمل بتحقيق الشراكة الفعلية في الحكم ثالثاً، ورابعاً والأهمّ هو انتخاب عون رئيساً للجمهورية.

الرهان على العهد الجديد يوازي الأحلامَ التي بُنيت عليه، هذه كانت حال المواطنين الذين شقّوا طريقهم في اتّجاه القصر، فهم يرون في عون الرئيسَ القادر على تحقيق المطالب التي كانت تُرفع في السابق، وتنوَّعت الأمنيات بالأمس، بين عسكري سابق في الجيش عايشَ مرحلة حرب «التحرير» وتمنّى أن لا يكون هناك وجودٌ مسلّح سوى الجيش اللبناني، وبين مواطنين آخرين طالبوا بعودة المسيحيين الفعلية إلى الدولة وحلِّ أزمة النزوح السوري الوجودية، وصولاً إلى تحقيق الوعود التي قطِعت سابقاً في شأن تأمين الكهرباء 24 /24، إضافةً إلى الخدمات الأساسية، ووقفِ الرشوة والفساد وإصلاح مؤسسات الدولة.

التفتيش

منذ الصباح الباكر، لم تهدأ حناجر العونيّين الذين انطلقوا بمواكب سيّارة في اتّجاه القصر، ولاقاهم في صيحاتهم صدى الموسيقى التي كانت تتردّد من بعبدا منشِدةً الأغاني الوطنية وأغاني الجنرال.

قد تكون «بعبدا حجارة مشتاقة»، لذلك فإنّ تَعب المشوار من المناطق البعيدة والقريبة لم يمنع الناس من تحقيق رغبتهم على رغم التفتيش الدقيق الذي كان ضرورياً، ولا استثناءات، لأنّ الخطر الأمني موجود، فكان كلّ حاجز يفتّش المارّة عند وصولهم إليه، وقلّة أبدت إنزعاجَها، فيما الأغلبية الساحقة كانت متفهّمة الضرورات الأمنية «إذا صار شي للجنرال ما عنّا بدالو».

تأخّر وصول البعض نظراً للزحمة على المداخل، فيما آخرون حجزوا في الصفوف الأمامية منذ التاسعة صباحاً وسط حالات الإغماء، ووقفوا تحت شمس تشرين الحارقة، فيما ارتدى البعض قمصانَ «التيار الوطني الحرّ» وآخرون قمصاناً رسِمت عليها صورة عون.

وكدليل على تبدّلِ المشهد السياسي وامتزاج الألوان وتوحُّدِها تحت قيادة الأخضر والأحمر والأبيض، طلبَ رئيس الجمهورية استبدالَ علم «التيار» والأعلام الحزبية بالعلم اللبناني فقط، فعملَ لواء الحرس الجمهوري على هذا الأمر.

تعيش الذاكرة الجماعيّة لحظات استرجاع للماضي، فلا تنسى مراحلَ الانتصار، لكن تعلقُ في ذهنها لحظة الانكسار التي تغيّرَ معها مجرى التاريخ، لتعيش بعدها التحضيرات لتحقيق النصر والتعويض عن سلسلة الهزائم، فخروج عون من قصر بعبدا شكّلَ خسارةً، على رغم أنّه قال آنذاك: «يستطيع العالم أن يسحقَني لكنّه لا يستطيع أن يأخذ توقيعي».

ويوم 6 تشرين الثاني (أمس) شكّلت عودةُ الجماهير إلى قصر بعبدا، تلك الجماهير التي كانت تزحَف منذ نحو 28 سنة، مطالبةً بعودة الدولة وتحقيق الاستقلال. وحالُ بعضهم يشبه حالَ من ذاق طعم «الدخّان» للمرّة الأولى فأدمنَ عليه وباتَ يتمنّى كلّما أشعلَ سيجارةً أن يستعيد الشعور الأوّل.

المساواة

كلُّ شيء في القصر تغيَّر، وبقيَ روّاد «بيت الشعب» (قصر بعبدا) ينتظرون عون ليخرجَ عليهم من الشرفة التي كان يطلّ منها أيام حرب التحرير ليصرخ «يا شعب لبنان العظيم»، فتلك العبارة هي بالنسبة إليهم طعمُ السيجارة الأولى الذي لا يُنسى. لكنّ المنصّة التي رُفعت وراءَها

الأعلام اللبنانية حلّت مكان الشرفة، والبِزّة الرسميّة أخَذت مكان العسكرية، وهدير طائرات «السوخوي» السورية التي قصفَت القصر في 13 تشرين الأوّل 1990 حلَّ مكانها هدير مروحيات الجيش اللبناني التي حلّقت منذ الصباح الباكر فوق أجواء بعبدا لتأمين حماية اللبنانيين.

باستثناء الرئيس الذي انتظرَه الناس، تَساوى الجميعُ في الانتظار والجلوس، ليس هناك مقاعد رسمية أو مدعوّون، فالنوّاب والوزراء والشخصيات والفنّانون كانوا يصِلون ويسألون عمّا إذا كان هناك مقاعد للجلوس، ليكتشفوا من تلقاء أنفسهم أنّ هناك شعباً في وجهِ الرئيس فقط، وأنّ كلّ الرسميات أسقِطت.

فقد حضَر النائب آلان عون «سبور» وكان متوتّراً من كثرةِ الفرحة، وعائلة الجنرال عون وبناته وقفوا مع الإعلاميين، فيما اختارَ رئيس «التيار الوطني الحرّ» الوزير جبران باسيل السيرَ مع الناس، وحظيَ العميد شامل روكز باهتمام خاص، خصوصاً من «الجنس اللطيف».

الموعد المقرّر لإطلالة عون كان عند الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، لكن بسبب تأخّرِ الناس في الوصول، تأجَّل بعضَ الوقت، فقال أحد نوّاب تكتّل «التغيير والإصلاح» ممازحاً: «إنشالله ما يتأخّر تأليف الحكومة كمان».

وفي هذه الأثناء كان قائد الحرس الجمهوري العميد سليم فغالي يشرف شخصياً على الترتيبات الأمنية قبلَ اللحظة المنتظرة، فيما بدت علامات الارتياح على وجوه عناصر الحرس الجمهوري بعد انتخاب رئيس للجمهورية.

لحظة الظهور

ما هي إلّا دقائق، حتّى خرجَ عون إلى الجماهير، ولاستذكار رهبةِ اللحظة كما كانت أثناء تولّيه رئاسة الحكومة الانتقالية، أطلّ الجنرال محاطاً بخمس شخصيات كانت تقف إلى جانبَيه في التظاهرات التي كانت تنظَّم آنذاك: النائب اللواء إدغار معلوف الذي كان وزيراً، المدير العام للأمن العام اللواء نديم لطيف، قائد لواء الحرس الجمهوري العميد ميشال أبو رزق، مرافقه السابق النقيب حبيب فارس، والمنسّق العام للمكتب المركزي للتنسيق الوطني الذي كان ينظّم المسيرات الشعبية الدكتور بيار رفول.

رسَم الجنرال علامة النصر، فاشتعلت حماسة الجماهير وعلَت الهتافات. وفي كلمة مرتجَلة، صرَخ عون «يا شعب لبنان العظيم»، لتلتهبَ الجماهير مجدّداً، ويطالبه الجميع بأن يعيدها. لم ينسَ عون توجيه التحيّة إلى الشهداء، والمصابين الذين حضَروا أيضاً، مستذكِراً مرحلة القصر وما لحقَها من نضال، مؤكّداً أنّ الحياة تستمرّ، محاولاً التوفيقَ بين الاستقلال والإصلاح، وواعداً ببناء دولة للجميع قوية وقادرة ومتصالحة مع محيطها ومحافِظة على سيادتها، تحترم الدستورَ الذي لن يُسمح باختراقه مجدّداً، وتستأصل الفساد.

سمعَ الجميع كلمة الرئيس الواعدة، وكلّهم ثقة بأنه سيتمكّن من تحقيق الأحلام، لا أن «يصادف أكلة الجبنة في طريقه»، فالألغام التي زُرعت في الطريق إلى بعبدا محَتها السنوات والتفاهمات، لكنّ طريق الإصلاح مليئة بالقنابل «الفاسدة» إذا صحَّ التعبير، والأهمّ تفكيكها لكي لا تنفجر وتُفجّر البلد.