يستطيع السنّة والشيعة، والمسيحيون والمسلمون، والعرب والكرد والسريان والأشوريون والكلدان والأيزيديون، وكل من هبّ ودبّ في هذا الوطن العربي، أن يعلنوا اليوم حقيقة واحدة، لو صدقوا، مفادها أن الجميع انهزم وسقط في الفخ، وان الدول الإقليمية ومن خلفها الدول العظمى حققت بالدم العربي كثيراً مما لم تحلم يوماً بتحقيقه.
ليست بدعة «الربيع العربي» أمراً جديداً على السقوط في الفخ. سبقها منذ تقسيم فلسطين ما يشبهها. آنذاك تآمر العرب على العرب. كانت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير ترسل حقائب المال لهذا الحاكم او ذاك لتأليب الحكّام العرب القدامى أو حديثي العهد، على بعضهم البعض، والقبول بإسرائيل. (لعل كتاب المؤلف الفرنسي شارل انديرلان حول المفاوضات السرية العربية الإسرائيلية من ١٩١٧ الى ١٩٩٧ يكشف حقائق مخجلة). كان البريطانيون كذلك يتلاعبون بالملوك والأمراء والحكام لتزيين الاستعمار في عيونهم (راجع الوثائق البريطانية المعيبة عن تاريخ تلك الحقبة). هكذا استيقظ العرب من أول صفعة أعقبت الحرب العالمية الأولى، ليكتشفوا أن من وعدهم بالاستقلال لو قاتلوا الألمان، أرسل إليهم سايكس وبيكو يرسمان بدماء العرب خرائط الجغرافيا الجديدة والحدود المصطنعة.
خلال ٦٨ عاماً نهبت إسرائيل ٨٥ في المئة من أرض فلسطين. لم يبق منها سوى ١٥ بالمئة مقطّعة الأوصال. سرطان المستعمرات (او المستوطنات) تضاعف ٦٠٠ مرة منذ توقيع اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣. مشاريع التهويد تتسارع وسط صمت مريب إن لم نقل مع ضوء أخضر عربي معيب. أما حق العودة، فهو قد احترق مع نيران «الربيع» وتشتت المخيمات. ما أريد تمريره من إلغاء لهذا الحق في القمة العربية في بيروت عام ٢٠٠٢، صار واقعاً. هذا يعني أنه في الخسارة العربية الكبرى، فإن قضية العربية الأولى (هكذا أسموها زوراً عبر التاريخ) هي في طريق الانتهاء. لا يُبقيها حاضرة إلا عزيمة شبان دفعهم يأسهم الى حمل سكين مطبخ انتقاماً من مستوطن هنا أو شرطي هناك وهم مدركون تماماً أن طريقهم الى الاستشهاد محتوم.
ماذا في الخسائر العربية الأخرى بعد فلسطين؟
مَن يقرأ كتاب «خطة الهجوم» للكاتب الأميركي بوب وودورد، يكاد يخجل من ذاك التآمر العربي مع الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ومحافظيه وصقوره لإسقاط النظام العراقي بقيادة صدام حسين. لم يكن العراق بلداً فاضلاً، ولا كان صدام حسين قائداً عادلاً، لكن لا أحد يستطيع إنكار حقيقة التطور العلمي الهائل في عهد الرئيس الراحل. يكفي أن ينظر المرء الى بريطانيا وتدفق آلاف الطلاب العراقيين إليها في ثمانينيات القرن الماضي لدراسة الطب والعلوم ليعرف كم كان الهاجس العلمي كبيراً. يكفي أن نعرف أن عشرات الجامعات والمعاهد، وهيئة الطاقة الذرية ومراكز البحوث فرّخت في سنوات قليلة بين الثمانينيات والتسعينيات لتُحدث نهضة علمية كبيرة في عراق صدام… كان الباحثون ينتجون بحثين أو ثلاثة كل عام من أهم البحوث العلمية بفضل مساعدة الدولة. ناهيك عن الخدمات والبعثات الطبية والعلمية، والتطور الصناعي العسكري الهائل.
حين جاء وزير الخارجية الأميركي كولن بأول إلى الرئيس بشار الأسد عام 2003 بعد اجتياح العراق، طلب منه عدم استقبال العلماء العراقيين. تبين لاحقاً أن كثيراً من هؤلاء العلماء الذين لم يستطيعوا الهرب من المحتل، قُتلوا. مَن قتلهم ولماذا؟ مَن نهب الآثار وأعاد المستوى العلمي إلى نقطة الصفر؟ ولماذا؟ كان الاجتياح قد استند الى كذبتين، هما: أسلحة الدمار الشامل وعلاقة صدام حسين بتنظيم القاعدة. اعترف الأميركيون والبريطانيون بأنهم كذبوا.. مَن حاسبهم ومَن لاحقهم؟ لا أحد، لأن قيادات عربية ساهمت في الاجتياح وشرّعته وغطته، ولأن قيادات أخرى خافت من صدام وقوته، وقيادات ثالثة أرادت الانتقام منه بسبب خطئه المميت باجتياح البلد الجار والشقيق، أي الكويت.
مَن يقرأ الكتاب ـ الوثيقة، للمؤلف والمحقق الفرنسي بيار بيان بعنوان «مجازر» يفهم كيف تمّ تركيب آلة جهنمية أميركية إسرائيلية لتقسيم السودان وفصل جنوبه. أين كان العرب؟ لماذا لم يذهبوا للاستثمار هناك؟ لا بل أين كانوا في الصومال وجيبوتي وجزر القمر؟ إن دولة مثل جزر القمر كانت تحتاج فقط الى ٨٥ مليون دولار لإنقاذ ميزانيتها، تُركت على قارعة الطريق، فهل تُلام إيران إن ذهبت وساهمت في إنقاذها وصار لها في قلب عاصمتها مراكز باسم الإمام الخميني؟ نعم دخلت إيران الى الدول العربية، لأن أبواب هذه الدول كانت مشرّعة ومخلّعة.
في العام 1970، مات الزعيم العربي الأول جمال عبد الناصر من الهمّ أو الخسارة أو المرض، أو ربما قُتل بسم بطيء كما كان حال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لاحقاً. وقُتل العقيد معمر القذافي سحلاً بأبشع صور القتل على بعد أمتار من قوات أطلسية. وتمّ تقسيم السودان ونهب الثروات الهائلة في جنوبه، وغرقت الجزائر بحربها ضد الإسلاميين وجماعاتهم المسلحة. أين كان النظام العربي حيال كل تلك الأحداث الجسام؟ كان القادة العرب ببساطة يتآمرون على بعضهم البعض. هناك مئات الوثائق المسرّبة، أو تلك التي تم الكشف عنها بمرور الزمن، وعشرات الكتب التي تروي كم نخرنا سوس التآمر الداخلي وكان السبب الأول لدخول دول إقليمية أو قوى كبيرة الى نسيجنا الداخلي.
ماذا في الخسائر الحالية؟
منذ كارثة كامب دايفيد التي أخرجت مصر من النظام العربي، الى تهافت الدول العربية على نسج علاقات دبلوماسية او تجارية او تحت الطاولات مع إسرائيل، كان البديل عن المقاومة العربية، قيام مقاومات شيعية في لبنان او إسلامية في فلسطين. دخلت ايران الى الجسد العربي من بابه الواسع، من باب القضية العربية الأولى (كما كانوا يسمّونها زوراً في النظام الرسمي العربي).
مع تحوّل ايران الى العدو الأول لدول عربية في الخليج (وربما في مصر أيضاً)، انزلقت عواصم العرب إلى أسوأ انقسام في تاريخها. تُركت سوريا تغرق في حربها الكونية. شُرِّعت أبوابها لكل من هبّ ودبّ. أُريد لها ما أُريد قبلها للعراق. ها هي سوريا ساحة مفتوحة للاميركيين والروس والإيرانيين. وساحة مستباحة للأتراك وإسرائيل. تُرك اليمن أيضاً لمصيره القاتم تقتله كل يوم أوهام الانتصار من هذا الفريق أو ذاك، بينما السعودية التي كانت الدولة المالكة معظم مفاتيح اليمن الداخلية، تؤسس لمستقبل من الكراهية والعداء بين شعبين يُفترض أن يكونا الأقرب. تُركت ليبيا تُدمّر وتُقسّم. ليس مهماً إن نجح الضابط خليفة حفتر في حماية مناطق النفط (فتش عن السبب)، لكن الأهم أن تدمير ليبيا لم يكن مطلقاً لمزيد من الحريات والديمقراطية. لم يسأل أحد كيف مات فعلاً وزير النفط الليبي السابق شكيب خليل غرقاً في نهر الدانوب؟ قيل إنه انتحر، ولكننا نكاد نجزم أنه قتل لأنه يملك ملفات تورِّطً دولاً ساهمت بإسقاط القذافي. صدر أكثر من كتاب في فرنسا في الآونة الأخيرة يتحدث عن مؤامرة ليبيا، وبعضها كشف وثائق خطيرة حول علاقة القذافي بالرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. (منها مثلاً كتاب «ساركوزي ـ القذافي، التاريخ السري للخيانة» لمؤلفته كاترين غراسييه).
بعد ٦ سنوات على بدعة الربيع العربي (مع احترامنا لمن تظاهر فعلاً لتحسين ظروف حياته ورفع الظلم وطلباً للحرية والديمقراطية)، يمكن الجزم بأن المشهد العربي مثير للشفقة. فقد تم تحقيق النتائج التالية بالدم العربي:
& أولاً : تدمير دول مركزية وإشغال جيوشها.
& ثانياً: دفع العرب إلى كراهية العروبة حتى صارت شتيمة أو نكتة عند المثقفين وعامة الناس. وقتل كل أمل بأي تقارب عربي ـ عربي.
& ثالثاً: قمع أي كلام عن حق العودة وتحويل الفلسطيني إلى مشتبه فيه في الدول العربية وإبعاد العرب عن قضية فلسطين والتمهيد لصفقة عربية إسرائيلية برعاية دولية تُنهي الصراع.
& رابعاً: جعل عبارة «فتنة شيعية سنية» هي محور النقاشات فقط، وإغراق المجتمعات بالاقتتال على أساسها.
& خامساً: تنشيط المصانع الحربية الغربية التي باعت العرب في السنوات الماضية أكثر مما باعته في تاريخها، وإنقاذ جزء من الاقتصاد الغربي.
& سادساً: تعزيز الإسلاموفوبيا (كره المسلمين) في الغرب بحيث صار كل مسلم مشتبهاً فيه، فراحت بعض الدول تجاهر بحصر الهجرة بالمسيحيين. يجب أن نسأل هنا عمن يقف خلف الترويج لأفكار القتل والذبح عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهي القادرة على منع ذلك بكبسة زر.
& سابعاً: إفراغ الشرق من ثروته المسيحية ومكوّناته الأخرى.
& ثامناً: إقناع العرب بأن المقاومات مشتبه فيها وأن السلام والاستسلام أفضل.
& تاسعاً: تغيير المطالب برحيل الأميركيين وقواعدهم من المنطقة، إلى طلب الحضور العسكري الأميركي لضرب «داعش» وغيرها.
& عاشراً: تغيير طبيعة الأدوار الإقليمية بعد الاتفاق النووي مع إيران، ومحاولات تأديب السعودية وتركيا بالضغوط المباشرة أو القوانين أو النقاشات داخل الكونغرس.
& أحد عشر: جعل إسرائيل الدولة الأكثر إفادة من كل هذه الحرائق العربية.
نحن إذن أمام مشهد الخسائر العربية الكبرى. وما لم يعترف الجميع بذلك، ويباشروا البحث في كيفية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فإن الرابح في الحروب خاسر، والخاسر خاسر.