رغم نفحات الإرتياح والأمل التي أطلقتها في أجواء البلاد عامة، مبادرة الرئيس سعد الحريري، وأسفرت عن مفاجأة انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، ها هي سلسلة من المفاجآت الفرعية الأقل وزناً وحجماً، يُلقى بها تباعا على ساحة الأحداث، تجرّ وراءها سُحُباً داكنة من التحفظات والتحسّبات لدى المراقبين، وفيضاً منها لدى المواطنين الذين استبشروا خيراً، وهيأوا أنفسهم لمزيد من فسحات الإرتياح والأمل، وكان البارومتر الأساسي الذي قاسوا به الإنقشاعات العامة التي طاولت البلاد، ما أذيع وأشيع عن تشكيل شبه فوري للحكومة العتيدة، قيل أولا أنه لن يتجاوز أياماً قليلة، وقيل لاحقاً أنه لن يتجاوز عيد الإستقلال، وقيل مؤخراً أن انتظار التأليف قد يطول إلى مدّة غير محدّدة، إلاّ اذا أفلحت المساعي المحلية وربما الإقليمية وربما الدولية في حلحلة العقد، وتذليل الصعاب.
ما هي المستجدات التي قلبت الأوضاع على النحو المضطرب الذي لمسناه والذي أسفر حتى الآن، عن التأخير في الإعلان والتوقيع على التشكيلة الحكومية التي يجمع المراقبون على أن حياتها لن تمتد أكثر من ستة أشهر، وأن ما يرنو إليه المواطنون من آمال وتوقعات سيكون موقعه الزمني في عهدة الحكومة اللاحقة التي يعتبرها الرئيس عون، حكومة العهد الأولى ومنها الإنطلاق.
لا بُدّ من الإشارة أولا إلى أن ما انقضى من أيام، لا يدل حتى الآن على أن العهد قد دخل ودخلت معه الحكومة قيد التأليف، في مأزق كبير غير متوقع قد يضعه في موقع اهتزازي في بداية تسلمه للسلطة الأولى، ويؤكد على ذلك تصريحات الرئيس الحريري المتفائلة التي يعلن فيها عن قرب تشكيل الحكومة العتيدة، إلاّ أن مزيداً من التأخير في التأليف سيكون دليلا على جملة العراقيل المقصودة التي بات استجماعها في هذه المرحلة المبكّرة يدل على رسائل موجهة إلى العهد الجديد، تلي جملة من المواقف الصاروخية المنطلقة من أكثر من اتجاه، والهدف واحد: عرقلة مسيرة العهد في خطواته الأولى، لعلها تدخل في نطاق كلمات ومواقف معبرة صدرت عن أكثر من جهة، قد يكون أبرزها ما سبق للرئيس برّي أن أعلنه عن أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة «الجهاد الأكبر»، وأنه بتسمية الرئيس الحريري قد سدّد له كامل الديون التي يحملها له بذمته.
أما الإنتفاضة الكبرى التي أطلقها الرئيس برّي تعليقا على ما أدلى به الرئيس عون لدى زيارته لمقر البطريركية المارونية والمتعلقة بالتمديد للمجلس النيابي وما لحق بها من تصريحات لسماحة الشيخ عبد الأمير قبلان في رده على بعض أقوال البطريريك، فقد كانت حشداً من المواقف السريعة وكأنما هناك «لطوة» مقصودة لرئيس المجلس على المفارق المؤدية إلى مواقع الرئيس عون، وبينها عرقلة للإنتخابات الرئاسية لمدة تناهز العامين. متهماً أياه بأن ذلك يشكل مخالفة دستورية أكبر وأخطر بكثير من اتهامه بالتمديد المتكرر للمجلس، يضاف إلى ذلك أن حزب الله قد فوّض للرئيس برّي إتخاذ المواقف المناسبة في عملية التشكيل الحكومي، وهو الذي دفع بنوابِه إلى انتخاب الرئيس عون وسط مواقف فيها من البرودة والوخزات السلبية أكثر مما فيها من الحماس والتأييد المطلق، وهي تكاد أن تشابه تصريح الرئيس بري بتسديده لكل ديونه للرئيس الحريري، حيث يستشم من هذه المواقف أن حزب الله يكاد أن يقول بأنه قد سدّد جميع ديونه للرئيس عون.
مشيرين في الوقت نفسه إلى الإستعراض العسكري الضخم وغير المتوقع الذي نظمه «جيش» الحزب في «القُصير» وإلى الإعلان عن إنشاء أكثر من سرية مقاومة عسكرية في أكثر من منطقة لبنانية ويقصد من ذلك توجيه رسائل في كل اتجاه مغزاها الفصيح: نحن هنا بدباباتنا أميركية الصنع، وصواريخنا المورّده إلينا من إيران، ولعل أهمّ من طاولَتْهم تلك الرسائل، العهد الجديد، بكل مكوناته وكل مواكبيه.
دون أن ننسى أن هذه الطحشة الجماعية المستغربة على الإستيزار ووضع الفيتوات والدفع بجهات أخرى إلى المطالبة بوزارات سيادية ووزارات وازنة، مما وضع التشكيلة الحكومية أمام جملة من الحواجز الرادعة.
هذا غيض من فيض، ونتيجة واضحة لما أعلنه الرئيس برّي عن بداية «الجهاد الأكبر»، فهل يكون هذا الجهاد زكزكة قاسية ومتعبة للعهد الجديد مادياً ومعنوياً في بدايات انطلاقته أم يكون عنواناً مؤسفاً لمراحل الحكم المقبلة، ونتساءل مع كل المتسائلين بقلق وتحسّب: ما محل هذه الزكزكات والمقلقات من الإعراب على ضوء التطورات المحلية والإقليمية، وعلى ضوء «المجهول» القادم إلينا وإلى العالم أجمع، من الولايات المتحدة الأميركية برئيسها الجديد وسياستها، المتوقع منها والغامض، فضلا عن المجهول المكلل بمئات علامات الإستفهام، ومع ذلك كله ستشارك أغلبية الشعب اللبناني الرئيس الحريري، أمله وعمله الدؤوب وتوجّهه المخلص لإنقاذ مركب الوطن والدولة والمؤسسات من الغرق والإندثار، بعد أن عادت بعض العواصف والأمواج إلى سياسة المصادمة والعرقلة والتفخيخ.